توجهات جنبلاط بشأن السويداء تثير قلق المتطرفين

الأحداث الأليمة التي وقعت في محافظة السويداء جنوب سوريا، تركت بصمات سوداء بين المكونات المجتمعية التي تتعايش فيها بسلام منذ مئات السنيين، خصوصاً بين الموحدين المسلمين الدروز، أو “عشائر بني معروف” كما يناديهم أقرانهم الألداء، وبين العشائر العربية أو “البدو” كما يطلق عليهم في الأوساط السورية.
والجراح القاسية التي خلَّفتها الهجمات البربرية التي تعرَّض لها المدنيون في مدينة السويداء وجوارها، كانت من فعل أفراد لا يدركون مخاطر ما فعلوه، وغالبيتهم لا يعرفون شيئاً عن تاريخ المنطقة والعلاقات بين أبنائها، ويحملون ضغينة مقيتة واهية تجاه الدروز الذين كانوا على الدوام عضداً للعروبة وللإسلام، وسداً منيعاً في وجه مَن يستهدف وحدة سوريا. وردة فعل المدافعين كانت من نوع الاستبسال الفطري الذي يلجأ إليه أبناء الجبل عندما يشعرون بالخطر، ولو كان هناك بعض الاستغلال لهذا الاستبسال طال ضحايا أبرياء.
لكن جوهر القضية المطروحة لا ينحصر في الفجيعة الدموية التي حصلت، رُغم فظاعتها، بل في التداعيات السياسية والمستقبلية للأحداث، وما تحملهُ من أخطار على وحدة واستقرار سوريا من جهة، وعلى مستقبل العشيرة المعروفية من جهة ثانية، وإسرائيل تتربَّص شراً بالبلد الجريح، بينما تركيا الجارة الشمالية الهامة كانت تحاول استثمار ما يجري في “حسبة” المقاصة مع المكوِّن الكردي في سوريا على غير ما كان منتظراً، حيث ضَرب هامش التمايُز الدرزي في الجنوب يُحبط الطموحات الفيدرالية الكردية المزعجة لتركيا في الشمال، ويبدو أن العناصر المُتفلته من كل أدبيات القانون والنظام، والتي تتعايش على ضفاف الرعاية التركية السابقة، هي التي تجاوزت كل الحدود في سياق تنفيذ المهمة المُلتبسة في السويداء.
تحاول بعض المرجعيات في السويداء اعتبار المسألة محلية، ولا تحتمل تدخلات من خارج المحافظة، في مقاربة فيها شيء من الرغبة بالاستفراد بالقرار، لكن الوقائع وما يحيط بها، تؤكد أن القضية كبيرة جداً، وهي تتعلَّق بالاستقرار العام في المنطقة برمتها، حيث نجاح المشروع الإسرائيلي التفتيتي في جنوب سوريا، يعني شرذمة المنطقة العربية، كما أنها تتعلَّق بمستقبل الدروز أينما كانوا. وفرض حالة تعاون بغيضة بينهم وبين إسرائيل، يلغي خصائصهم العربية والإسلامية كافة، ويمسّ بتاريخهم الواضح في هذا السياق، حيث الخضوع القهري للاحتلال – كما حصل لدروز فلسطين عام 1948 – شيء والتعاون المقيت مع هذا الاحتلال وهو خارج الحدود شيءٌ آخر.
وفي الوقت الذي يعتمد فيه بعض النافذين في السويداء على المساندة الخارجية في حراكهم المحلي، ينكرون على مرجعيات أساسية من أبناء جلدتهم إعطاء الرأي بما يجري، برغم أن هؤلاء تحمَّلوا جزءاً كبيراً من أوزار المعركة، ولفحتهم رياح المستجدات بما لا تشتهي سفنهم الراسية. و”الدياسبورا” الدرزية الأصيلة المنتشرة في لبنان وفلسطين والأردن والاغتراب، تفاعلت مع الألم السويدائي بما لا يقلّ عن تفاعُل أبناء المحافظة، وتحملوا آلام وازنة بسببها، من جراء الضحايا الأقرباء من جهة، وبسبب الدعاية البغيضة التي استهدفت تشويه سمعة الطائفة وتاريخها، وكان هؤلاء مصدر العضد الإنساني والإغاثي لأشقائهم.
نجح الزعيم وليد جنبلاط في تصويب بوصلة الحدث الجلل وسط الرياح الدموية والسياسية العاتية، وقد تفاعلت معه الشريحة الأكبر من المعنيين، من داخل الطائفة الدرزية ومن خارجها، وهؤلاء أدركوا أن مخاطر تغيير الخارطة الجيوسياسية في جنوب سوريا، سيُنتج وبالاً غير مُحدد بزمن على الدروز وعلى المنطقة برمتها، وجزء من هذا الوبال سيكون عزل الدروز عن واقعهم التاريخي، وعن محيطهم، وربطهم بالمشاريع الإسرائيلية المعادية. وقد ساند جنبلاط في مهمته الشاقة عُقلاء ومرجعيات من جبل الدروز، وبالمقدمة منهم شيخ عقل دروز لبنان الدكتور سامي أبي المنى والأمير طلال أرسلان وناشطين من سوريا ولبنان، ولاقاه الحريصون على الأمة من قيادات الطائفة السنية في لبنان، والمرجعيات العربية الوازنة، لا سيما الخليجيين والمصريين، وعضدت مواقفه.
مواقف جنبلاط أقلقت الساعين إلى تنفيذ أجندات خاصة في سوريا وفي لبنان، وهو تعرّض لحملة تشهيرية شعواء من كل المتضررين من إفشال المشروع التقسيمي الانتحاري، رغم أن فصول فشله لم تتبلور نهائياً بعد، ومن الذين يريدون العودة إلى نغمة “تحالف الأقليات” في وجه الأكثرية “السنية” وتبين أن همّ هؤلاء الأساسي تفتيت الحالة السورية الجديدة التي سببت نكبة لخيارهم، بصرف النظر عن الاستفادة الإسرائيلية من هذا المشروع، رغم أنهم يشهرون لها العداء في العلن، بينما الخارجون على القانون من المُتلطين خلف عباءة المشروعية السورية الجديدة، قدموا خدمات كبيرة لأصحاب المخططات التفتيتية، لأنهم ارتكبوا موبقات لا تُحصى، وفشلوا في بناء الثقة مع غالبية من المكونات المجتمعية السورية، وشوهوا سمعة الأكثرية، وجعلوا من حضنها الرؤوف، مشرحةً استبدادية وجسدية غير مقبولة.
المقاربة الجنبلاطية لاقت صعوبات جمَّة، ولم يتقبلها في البداية عدد كبير من الدروز الذين تعرضوا للمهالك، لكنها نجحت في وقف مسارٍ متهورٍ كادت مخاطره أن تصل إلى لبنان.
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.