البليك في روايته ‘البحث عن مصطفى سعيد’ يتناول العلاقة بين الحاضر والماضي وينتقد مفهوم ‘الوطن البديل’

البليك في روايته ‘البحث عن مصطفى سعيد’ يتناول العلاقة بين الحاضر والماضي وينتقد مفهوم ‘الوطن البديل’

يبني عماد البليك روايته “البحث عن مصطفى سعيد”، الصادرة حديثاً عن دار “إيبيدي”، على افتراض مفاده أن بطل رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” شخصية حقيقية، وأن له حفيداً حمل الاسم نفسه، ومن ثم يستدعي الماضي في مواجهة الحاضر، وينقد علاقة المثقف بالسلطة، وفكرة “الوطن البديل”، مؤكداً التضاد القديم بين ثقافتي الشرق والغرب.
تبدأ أحداث الرواية بعودة بطلها “محمود الحاج سيد أحمد” من دولة عربية نفطية إلى بلده السودان، غداة إطاحة حكم عمر البشير المتكئ على أفكار الإسلام السياسي وممارساته، في ربيع 2019، ليشارك بمنصب في الحكومة الانتقالية، وصولاً إلى اشتعال الحرب الأهلية في 15 نيسان / ابريل 2023، وفراره على أثرها إلى لندن طالباً اللجوء السياسي، قبل أن يعود بعد عامين إلى بلدته فتعتقله دورية عسكرية لا يعرف إلى أي من طرفي الحرب تنتمي، وتطلق عليه الرصاص.
هكذا تبدو رواية البليك في مجملها تناصاً مع رواية الطيب صالح الصادرة عام 1966، غرضها التأكيد أن أمور السودان تسير منذ خمسين عاماً من سيئ إلى أسوأ، في ظل اقتتال أهلي يكاد لا يتوقف حتى يُستأنف.

الحفيد المتخيَّل
في لندن يضطرب “محمود” نفسياً ويجد نفسه مشغولاً بشخصية بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، إلى أن يصادف شخصاً يحمل الاسم نفسه يقيم معه في الفندق اللندني. فيفترض أن ذلك الشخص، وهو ديبلوماسي أجبر على التقاعد، لا يلبث أن يموت حسرة على فقدانه مركزه الرفيع في السلطة، ما هو إلا حفيد “مصطفى سعيد” الذي انتهت رواية صالح به وهو يكاد يغرق في مياه النيل.
أغلب السرد يأتي بضمير المتكلم، ويحضر ضميرا المتكلم والمخاطب في بعض مواضعه، لتأكيد تشظي الشخصية الرئيسية تحت وطأة المرض النفسي، ومن ثم يمتزج الحقيقي بالمتخيل، بحيث يصعب التفريق بينهما، كما تتداخل الأزمنة التي تقع خلالها أحداث عاصرها الراوي الذي يقترب عمره عند نهاية الأحداث (عام 2025) من الخمسين عاماً. ولغلبة السرد الذاتي، تكثر المونولوغات التي تعكس أفكار بطل الرواية، الذي يبدو أن البليك اتخذه نموذجاً لأزمة المثقف ليس إزاء اقترابه من السلطة فحسب، بل أيضا إزاء قضايا وجودية، من قبيل الموت والحياة، وماهية المواطنة، والاغتراب، ومن ذلك قوله لنفسه وهو يتأمل في ما آل إليه حال سياسيين من بلده يعيشون لاجئين في لندن: “إنهم قذرون، بلا ضمير، لكنهم يتمسكون بصور زائفة. المهم أن يظهروا لامعين على الشاشات، يتحدثون عن المفاوضات، ونهاية الحرب، والقرارات الأممية، والتدخل الدولي” ص 355.

 

غلاف الرواية.

 

لندن 2025
بطل الرواية يحمل شهادة في الحقوق وكان يتجنب العمل السياسي، لتلافي تكرار تجربة اعتقاله عقب تخرجه وتعذيبه في السجن، من دون أن يعرف كنه التهمة التي تمَّ على أساسها توقيفه، لكنه يعدل عن ذلك بعدما بدا له أن بلده على أعتاب تغيير جذري عقب إطاحة الحكم العسكري الديني بثورة شعبية. ولكن مع اشتعال الحرب بين طرفي الشق العسكري في نظام الحكم الانتقالي، يضطر “محمود” إلى الخروج خفية إلى القاهرة، ومنها إلى لندن طالباً اللجوء السياسي. وبالمصادفة، يعرف أن جاره في الفندق ديبلوماسي سوداني مصاب بشلل في رجليه، جراء تعرضه لحادث غامض على الأرجح، وأن اسمه “مصطفى السعيد”. والغريب أن ذلك الديبلومسي الذي أجبر على التقاعد بعدما كان سفيرا للسودان في بلاد عدة، يقر له بأنه حفيد بطل رواية الطيب صالح. وبالطبع، قد يكون ذلك على الأرجح، ضمن توهمات “محمود الحاج سيد أحمد”، الذي كان مدركاً طبيعة أزمته النفسية ويسعى جاداً للعلاج منها، بأدوية المستشفى، وبالكتابة أيضاً.
كان يكتب على اللاب توب الخاص به وفي دفاتر ورقية، نصوصاً تأملية، ذات طابع شعري في كثير من الأحيان، ومنها عن رفيق اللجوء في لندن: “بدا لي مثل أولئك الساسة من بلدنا الذين يتعلمون في جامعات أوروبا ثم يعودون إلى الوطن فلا يقدمون له شيئاً، سوى مزيد من الشروخ”.

هوس عام
عندما قال له ذلك الجار الذي سرعان ما أصبح صديقه الوحيد في الغربة الاضطرارية: “نحن جيل موسم الهجرة، لقد عشنا على هذا النص الخالد”، كتب “محمود” في دفتره: “بدا أن انشغالي بصورة بطل الطيب صالح لم يكن هاجساً يخصني وحدي، بل كان هوساً عاماً يرافق كل الأجيال”.
وكما تزخر رواية البليك بمقتطفات منتقاة من “موسم الهجرة إلى الشمال”، فإن الكاتب المولود عام 1972 لا يكتفي بذلك التناص، وإنما يسمح لبطله بمناقشتها أو معارضتها على طريقة بعض الشعر العربي القديم: “مصطى سعيد ليس إلا تصوراً شبقياً، كائناً استلفه الطيب من خياله، ليرسم به صورةً كان يبحث عنها. المرأة الإنكليزية ليست بهذه السهولة كما أرى الآن… صحيح أنها تبتسم لك، وتضحك، وتفسح لك الطريق، لكنها ليست ساذجة أو مبتذلة. ومهما كانت حدود الرجل خارقة، لا يستطيع أن يخترقها بهذه السهولة. مصطفى سعيد ليس إلا أكذوبة ووهماً، لا أكثر. شخصٌ لن يحتويه سوى رواية كتبت في بداية النصف الثاني من القرن العشرين. وربما من هنا سنجد الحقيقة المفقودة”.
هكذا يواصل “محمود الحاج سيد أحمد الترجّح بين الشك واليقين في ما يخص تلك الشخصية الروائية الآسرة، التي تكاد تكون من لحم ودم، بالنسبة إلى قراء ذلك العمل جيلاً بعد آخر، من فرط براعة نسجها. و”مصطفى سعيد”، الحفيد، في عمل البليك هو أيضاً شخصية روائية، تتكئ في رمزيتها على ما سبق أن شيَّده الطيب صالح. هو الآن (2025) يقترب من الستين من عمره، ويجد نفسه في أمس الحاجة إلى وظيفة تنقذه من الجوع بعد نفاد مدخراته: “ما يُقدَّم لي كلاجئ لا يساعد كثيراً. لديَّ أناس في السودان يعتمدون عليَّ”. وهكذا يجد الرواي نفسه مضطراً إلى مراجعة قناعاته الشخصية: “ما كان يُسمى ثورة تحوّل إلى عبء ثقيل، فقد بدأت تصفية الحسابات، وصار كل شيء معقداً”، في رسائل يوجهها إلى شخص افتراضي، رمز إليه بالحرفين (م. س): عزيزي م. س، الأزمنة تتداخل في ذهني وتتمازج بشكل يربكني”.