آراء حول “سعيد تحسين بك: مجموعة الأعمال الشعرية الكاملة” (8)

آراء حول “سعيد تحسين بك: مجموعة الأعمال الشعرية الكاملة” (8)

إبراهيم سمو – المانيا 

 

تجليات الحلول والاتحاد لدى سعيد تحسين… قراءة صوفية ثقافية: 

لم يكن انكفاء سعيد تحسين، الإنسان والشاعر، عن الواقع قطيعة، بل تموضعاً على “حافة الوجود”، جعل من الشعر تجربةً وجودية؛ تجربة تتمرجح بين “نزوع صوفي” نحو الاندماج بالمطلق، و”إشراق فكري” يتجاوز الأطر الدينية الجامدة من دون أن يعاركها.
لكن المتأمل في شعره لا يجد “حلولاً ناجزة”، بل “علامات استفهام” تُزرع في تربة الذات، باحثة عن جوهر المقدّس بوصفه معنى متحوّلاً لا حقيقة مكتملة.
في هذا السياق، يسعى “تحسين” إلى افتعال توتر خلاق بين القصيدة والتأمل، بين الشغف الروحي والانفتاح المعرفي، مما يمنح نصوصه الصوفية كثافة وجدانية ومعرفية، ويجعلها قابلة دائماً لإعادة إنتاج المعنى، لا كمطلق، بل كمجال للعبور والاكتشاف.

 

 

 

   الهوى في شعره لا يُختزل في العاطفة أو الرغبة، بل يُصاغ بوصفه كشفاً روحياً يقترب من التصوف، حيث الحبيبة ليست موضوعاً غزلياً بل مظهراً من مظاهر المطلق، حافزاً على الاحتراق والذوبان في كينونة أسمى:  
“كنتِ جزءاً مني/ كنا واحداً نحيا/ بقلب واحد” ص311 
“عودي لنصبح جسداً واحداً/ وقلباً واحداً” ص314 
هذه الصور تتجاوز “البلاغة العاطفية” لتحاكي مقام “الفناء الصوفي”، حيث يتلاشى الفاصل بين “الأنا “و”الآخر”، ويغدو العاشق مرآة يتأمل فيها وجه الوجود.
لا غرابة، إذن، أن تستدعي تجربة سعيد تحسين، بوصفه أميراً معتزلاً، أصداء صوفية عميقة تتقاطع، وفق ما سيتّضح لاحقاً مع سيرة إبراهيم بن الأدهم، الزاهد الذي جعل من الفقد سبيلاً إلى المعنى؛ وربما، في بعض تجلّياتها، مع ملامح من سيرة الحلاج، شهيد العشق الإلهي.
تنبع أهمية هذا التقاطع من كون هاتين الشخصيتين تشغلان موقعاً رمزياً فريداً في “المخيال الإيزيدي”، لا باعتبارهما رمزين دينيين فحسب، بل كنموذجين لـ”الانمحاء الروحي” و”الانجذاب إلى المطلق”.
على هذا الأساس، يتخلّل شعر سعيد تحسين بُعدٌ هويّاتي داخلي، تغذّيه طبقات من الإرث الثقافي المشحون بالتجربة، والمضمّخ بألم التجلّي، حيث لا يفهم الشعر إلا باعتباره امتداداً لـ”السيرة”، ولا تقرأ “التجربة الشخصية” إلا ضمن أفق رمزي ينفتح على معناها ويتجاوزها.
النار في نصوص سعيد تحسين ليست أداة فناء، بل هي مجاز للتطهّر والكشف. هي “نار معرفية” تعيد تشكيل الذات بلغة العشق:
“من يمنحني عود ثقاب/ لأحترق/ وأحرق كلّ يابس وذابل” ص 264
“إن كنتِ ناراً/ يسعدني أن أكون وقوداً لك” ص 268
هنا، تحضر النار بوصفها “شرطاً للمعرفة”، كما في تأملات هنري كوربان حول “الاشتعال العرفاني”، حيث لا يُدرك الجمال إلا عبر ألم الكشف. وهذه رؤية لها -إن تم فحصها- أن تلامس تصور ابن عربي لـ”الوجد”، ذلك الاحتراق الداخلي الذي لا يخبو إلا بالفناء في المحبوب.  
تتحوّل “العين” في شعر سعيد تحسين من أداة للرؤية البصرية إلى مبعث لـ”الرؤية الباطنية”، إذ الإدراك لا يمر بالحواس بل عبر الحضور الوجداني للآخر:
“كي تصبحي/ جزءاً من العينين/ كي لا أرى شيئاً/ إلا من خلالك” ص 84  
وتنقلب الحبيبة، هنا، إلى (وسيط إبصاري ـ روحي)، يُعاد عبره ترتيب العلاقة بين الذات والعالم. 
و”تحسين” عبر رؤية كهذه يحيلنا إلى “لغة” ورثها كإيزيدي عن مَثَلِه “شيخ آدي”، وتنفتح، هي اللغة، فينومينولوجياً، إن صحت العبارة، على إدراك يغني عن العالم لأنه يحتضنه في تجليه.
في لحظة ذروة، ينفتح النص على أفق “الفناء الصوفي” الكامل:
“لنتلاشى معاً عن الوجود/ إلى اللاوجود” ص 334 
يلاحظ أن هذا اللاوجود لا يراد به نفي الكينونة إنما تحصينها على نحو يشبه ما توسّمته فرضية كارل يونغ: “موت الأنا هو ولادة الذات العليا”.
ولا يكتفي سعيد تحسين باستدعاء “المعجم الصوفي”، بل يعيد تشكيله ضمن أفق شعري حديث، يجعل من “العدم” خطوة أولى نحو تحقق “الوجود الأسمى”.
الشعر عنده ليس مجرد تعبير وجداني، بل مسار خلاص روحي، خاصة أن العشق يتحول من مجرد “تجربة” إلى “رؤية” عميقة. فلا يكتب الحب كعلاقة عادية، بل يصوغ “العشق” كـ “قوة معرفية”، كـ “رياضة باطنية” تنقي الجسد وتضيء الروح.
قرض القصيدة عند الرجل أشبه بـ “طقس تطهيري”، والعشق مرآة تُرى من خلالها “الذات” بعد أن تخلّت عن مركزيتها، في مسار يشبه “الحلول” الذي تحتفي به “التجربة العرفانية الإيزيدية”، حيث لا يُنظر إلى الجمال كمتعة، بل كعلامة على “الحضور الإلهي”.
لذلك، لا ينبغي أن يُقرأ شعر تحسين في حدود “الذاتي” و”الوجداني” فقط، بل في أفق يتجاوز الثنائية بين الجمال والمعنى، الحسيّ والمقدّس، الجرح والسكينة. فقصيدته “لحظة انكشاف”، و”وميض باطني” يولد من “الاحتراق” ويثمر في” الصمت”، ويبقي القارئ معلّقاً في مساحة تأملية بين “الانخطاف” و”اليقين”، أو قل، السؤال والطمأنينة.