العدالة المتأخرة في قضية انفجار المرفأ: هل سيصدر القرار الاتهامي قبل حلول الذكرى الخامسة؟

د. إبراهيم العرب
تقترب الذكرى السنوية الخامسة على فاجعة انفجار مرفأ بيروت، الذي هزّ العاصمة اللبنانية في الرابع من آب 2020، مخلفاً وراءه جرحاً لا يندمل في الذاكرة الجماعية. الانفجار الكارثي أدّى إلى استشهاد نحو 200 شخص، وإصابة أكثر من ستة آلاف آخرين، إضافة إلى دمار هائل طاول البنى التحتية والمباني السكنية والمؤسسات التجارية. ووفقاً لتقرير صادر عن نقابة المهندسين في بيروت، تضرر نحو 2500 مبنى بشكل مباشر، منها 300 مبنى مهدّدة بالانهيار، و250 معرضة لانفصال أجزائها، و550 ظهرت فيها تشققات وتحتاج إلى ترميم فوري. أما الخسائر الاقتصادية، فقد بلغت قرابة 15 مليار دولار، وتركّزت بشكل أساسي في منشآت المرفأ، والطرق، وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي.
وفيما تراجع الزخم الشعبي والإعلامي المحيط بالقضية، عاد الأمل يلوح في الأفق مطلع شباط\فبراير الماضي، مع إعلان المحقق العدلي القاضي طارق البيطار استئناف تحقيقاته، متخذاً خطوة جريئة تمثلت باستدعاء عدد إضافي من المسؤولين الأمنيين والموظفين للاشتباه في ضلوعهم في الانفجار.
وتعزز هذا المسار بتصريحات سياسية مشجعة، خصوصاً من رئيس الحكومة، الذي شدّد من قصر بعبدا على التزامه تحقيق العدالة الكاملة لضحايا الانفجار وأهاليهم، وكذلك وزير العدل الذي عبّر عن استعداده لإزالة أي عقبات قانونية تعرقل التحقيق. وزادت الآمال مع توجيهات النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجّار للقوى الأمنية بالتعاون الكامل مع القاضي البيطار، بما يضمن فعالية التحقيقات وجلاء الحقيقة، وصولاً إلى تأمين التعويضات اللازمة للمتضررين.
قانونياً، لا شيء اليوم يمنع القاضي بيطار من إنهاء تحقيقاته وإصدار قراره الاتهامي. فقد حسم الاجتهاد القضائي هذه المسألة (بالنسبة الى كيفية ملاحقة القضاة ومحاكمتهم)، منذ قرار المجلس العدلي الشهير الرقم 4 الصادر بتاريخ 24 كانون الأول 1973، الذي جاء فيه: “إن تولية المجلس العدلي على الشكل الوارد وفقاً للأصول الاستثنائية المبينة أعلاه تستتبع حتماً الحؤول دون إمكانية تولية سائر المحاكم وفقاً للأصول العادية الأخرى أو الاستثنائية سواء كانت عامة أو خاصة للنظر بمثل هذه الجرائم المحالة عليه، فينتفي من جراء ذلك المجال، التزاحم بين الصلاحيات بين المجلس وتلك المحاكم”.
وهكذا يكون المجلس العدلي قد أكّد على مبدأ قانوني أساسي مفاده أن الاستثناء لا يُفسَّر إلا تفسيراً ضيقاً، ولا يجوز التوسّع في مداه أو تطبيقه على غير الحالات التي ورد فيها نص صريح. وذهب إلى أبعد من ذلك، إذ شدّد على أن الاستثناء من الاستثناء لا يُعتدّ به، لأنه يُعدّ عودة إلى القاعدة العامة، وليس تأسيساً لقاعدة جديدة مستقلة، خصوصاً أن من شأن التوسّع في تفسير الاستثناءات أن يُقوّض بنية النظام القانوني القائم على القواعد العامة، وأن يُخلّ بمبدأ الأمن القانوني.
ويمثل هذا القرار مرجعاً قضائياً مهماً في الاجتهاد اللبناني، بحيث يُستند إليه في تفسير النصوص ذات الطابع الاستثنائي في مختلف الفروع القانونية، لا سيما منها في القانون الجزائي والإداري، وهو يُكرّس احترام إرادة المشرّع وضرورة التقيد الحرفي بما يرد في نصوص الاستثناءات من دون زيادة أو اجتهاد موسّع.
أما بالنسبة الى كيفية ملاحقة رئيس الوزراء والوزراء ومحاكمتهم عن جريمة انفجار مرفأ بيروت، فهم يخضعون للأحكام التي أنشأت المجلس العدلي، لأن المادة 70 من الدستور تنص فقط على جرمي الخيانة العظمى والاخلال بالواجبات الوظيفية، كما أن الهيئة العامة لمحكمة التمييز في قرارها الصادر بتاريخ 8\3\2000 عمدت في ما يتعلق بالاخلال بالواجبات الوظيفية إلى التفرقة بين الجرائم السياسية والجرائم العادية، بحيث قضت بأن الفئة الأولى هي فقط التي تحال أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، أما الفئة الأخرى فتخرج عن دائرة اختصاص ذلك المجلس، ولاسيما منها الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي والسلامة العامة.
وبالتالي، فإن حضرة المحقق العدلي مدعو إلى إكمال التحقيقات وتقرير الاتهام والاحالة على المجلس العدلي، فبموجب مضبطة الاتهام التي يصدرها البيطار يضع المجلس العدلي يده على القضية.
وتعتبر مضبطة الاتهام مماثلة للقرار الاتهامي الذي تصدره الهيئة الاتهامية وفق الأصول العادية، والتي تولي محكمة الجنايات صلاحية النظر في الدعوى وبموجبها تضع يدها عليها، خصوصاً أن الهدف من إنشاء المجلس العدلي هو الإسراع في وضع خاتمة سريعة للجرائم التي يرى مجلس الوزراء أنها خطيرة، وأن لها علاقة بأمن الدولة. ولذلك ترى المجلس العدلي مؤلفاً من أعلى القضاة رتبة، وأحكامه لا تخضع لأي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية.
ومن هنا، فإن على القاضي البيطار المضي قدماً في إصدار مضبطة الاتهام التي تُعدّ بمثابة القرار الاتهامي في القواعد العادية، لتُحال القضية رسمياً على المجلس العدلي، وتُباشَر المحاكمة أمامه وفقاً للأصول المرعية.
وفي هذا السياق، شكّل التعاون القضائي الدولي بارقة أمل إضافية. فقد زار وفد قضائي فرنسي بيروت أخيراً، وعقد سلسلة اجتماعات مع القاضيين الحجّار والبيطار، ضمن إطار التنسيق المشترك بين السلطات القضائية في البلدين. تبادل الطرفان المعلومات والخبرات، وطلب الوفد الفرنسي تزويده معطيات محددة تساهم في إعداد تقريره الفني النهائي، بينما سلّم من جانبه ما توصّل إليه من نتائج في تحقيقاته الجارية خارج لبنان. وقد عبّر الوفد عن دعمه الكامل للتحقيق اللبناني، وأشاد بمستوى التعاون القائم، معتبراً أن هذا التنسيق من شأنه تسريع الوصول إلى الحقيقة وضمان حسن سير العدالة.
في الختام، فإن العدّ العكسي للذكرى السنوية الخامسة لانفجار بيروت قد بدأ، ومعه تتصاعد التطلعات الشعبية إلى صدور القرار الاتهامي المنتظر، ليكون بلسماً لأهالي الضحايا، وخطوة أولى نحو محاسبة المرتكبين وإنصاف المظلومين. إنها ليست مجرد قضية قانونية، بل هي قضية وطنية وإنسانية، تمسّ كرامة الدولة وحقوق أبنائها، في واحدة من أفظع الجرائم غير النووية التي شهدها العالم الحديث.