نبي اليسار | فجر جديد

نبي اليسار | فجر جديد

أرسى زياد الرحباني، قبل رحيله، مداميك جنّته على الأرض، لا في الفردوس الأعلى. جنّةٌ أقرب إلى الواقع، ذلك الواقع الذي لطالما حاول أن يُوقظ الناس على معالمه. هي جنة فيها أنهار من نوتاتٍ ونصوص ومشاهد مسرحية وأغانٍ وكلمات كالخمر، تسكر في تفاصيلها.

 

في جنة زياد، نساء خائنات، وفيّات، سارحات، غانيات ومحتشمات. على أرضه يكذب البشر كما كذب “عيّاش”، يتخاطبون، يتزوجون، ينجبون، يسافرون، ويعيشون الحياة كما هي. كلّ شيءٍ يبدو بسيطا ومفهوما، رغم عبقرية حياكته وتعقيد بنائه.

خرج ابن عاصي وفيروز من جلباب الرحابنة، لكنه لم ينكره. سخر من “الجرّة” و”القنطرة”، ونفخ في “أبو الزلف” روحاً جديدة، جعلت من القرية الرحبانية قرية لا جرّة فيها، ولا شلال من جفصين، هو مجرد ديكور خافت يحاولون إنارته، ولكن لا “لمبات”.

زياد لم يهدم الموروث، بل فككه وأعاد تركيبه بلغة الناس، باليومي والواقعي والسّاخر.

حتى السيدة فيروز، نزلت عن عرش الأخوين عاصي ومنصور، وتجولت في الشوارع، تحدّثت مع الناس بكلماتهم، بأفكارهم، بمصطلحاتهم وتعابيرهم. جعل زياد من سفيرتنا إلى النجوم “الرفيقة فيروز”، التي رافقت “صبحي الجيز” وغنّت “يا ضيعانو”.

ومن كان في ضفوف تياره رفيقة مثلها، فقد بلغ أسمى مراتب المجد. لم يكن ذلك عبثا، بل رؤية فنية متكاملة حرّكت الأسطورة من إطارها المقدّس إلى نبض الشارع.

وما بدا للبعض خفة ظل أو تهكما، كان في جوهره استشرافا أقرب إلى النبوءة. كلّ ما قاله زياد تحقّق، كأنّ كلماته رسمت خطّا زمنيّا لمسار حياتنا. لم ينزل عليه الوحي، لكنه امتلك رؤية حادّة، وقراءة ذكية للواقع وتحليلا لِما بين السطور.

ولهذا السبب، اعتبره اليساريون نبيّهم، صوتهم، وضميرهم الحيّ. لكنّ يسار زياد لم يكن كأي يسار، بل بدا مشروعا نقديًّا وفنيًّا متفرّدًا، تعدّت أبعاده حدود لبنان، فامتدّت إلى الشام، والرافدين، وشمال أفريقيا.

لم تُفتح له الأبواب لأنه ابن الرحابنة فقط، بل لأنه مبدعٌ عبقريٌ من طرازٍ خاص، استطاع أن يخترق جدران الحرب بالكلمة والنغمة والموقف. في زمن الانقسام العمودي، سار زياد أفقيًّا بين خطوط التماس والمناطق المحرّمة، رافعًا راية العقل وسط جنون الاقتتال.

كان صوته صوت العاقل في زمن الهياج، وكان حضوره فعل مقاومة فكرية وثقافية.

وهذا التحدي الذي مارسه في حياته، ظلّ يمارسه حتى بعد رحيله. فقد فرض على اليسار، وعلى الشيوعيين، أن يرافقوه إلى بكفيا، بكل رمزيتها، وأن يجلسوا في الصف نفسه مع الرئيس السابق أمين الجميّل. هذه المفارقة تختصر مسيرته، وتُترجم رسائله المبطّنة.

أتى زياد كالأنبياء إلى الشعب المسكين وعاش معهم وبينهم. سار معهم في شارع الحمرا، حتى لحظاته الأخيرة، وجمعهم في كنيسة صغيرة في المحيدثة ببكفيا.

لم يكن فنانا عابرا في لبنان، بل كان زلزالًا ثقافيًّا، وحدثًا لا يتكرّر. الموسيقار، المؤلف المسرحي، الكاتب، المحلل السياسي، والملهم… كلّ هذه الصفات اجتمعت في رجلٍ واحد، لم يحتج إلى ريشةٍ ليرسم الواقع، بل إلى كلمةٍ توازي ألف لون ولوحة.

وفي رحيله، لا نجد كلامًا يليق بختم الحديث عنه، إلا ما قاله هو يومًا لصبحي الجيز:

“رَفيق ما عندي رَفيق،

ورح يبقى إسمي رَفيق،

عم فتِّش عَ واحَد غيرَك،

عم فتِّش عَ واحَد متلَك،

يمشي.. يمشي بِمشي…

منِمْشي ومنكفّي الطريق”.