مركز دبي المالي العالمي: النسخة العربية من وول ستريت

مركز دبي المالي العالمي: النسخة العربية من وول ستريت

جابر الشعيبي*

 

منذ انطلاقته في عام 2004، لم يكن “مركز دبي المالي العالمي” مجرّد منطقة حرة جديدة تسعى لجذب الاستثمارات، بل كان إعلاناً مبكراً لطموح إماراتي ببناء اقتصاد عالمي نحو المعرفة. وبعد أكثر من عقدين من تأسيسه، يؤكد المركز موقعه اليوم كأحد أقوى المحاور المالية في الشرق الأوسط، بل كأحد ملامح “الاقتصاد الناعم” للإمارات، في زمن تنافس مراكز الجذب المالي حول العالم.

الإعلان الأخير عن تسجيل 1081 شركة جديدة في النصف الأول من عام 2025، بزيادة لافتة تبلغ 32% عن الفترة نفسها من العام الماضي، لم يكن مجرد رقم في بيان صحافي، بل كان تجسيداً حيّاً لثقة المستثمرين العالميين في المنظومة التنظيمية والاقتصادية التي بنتها دبي بعناية. ومع وصول إجمالي الشركات العاملة في المركز إلى 7700 شركة، بزيادة 25% على أساس سنوي، يتضح حجم النمو الذي يشهده هذا الكيان المالي الذي يضم بين أروقته مصارف دولية، صناديق تحوّط، شركات تأمين كبرى، ومكاتب عائلية عالمية، إلى جانب شركات التكنولوجيا المالية والابتكار.

ما يُميّز تجربة مركز دبي المالي ليس حجم الشركات وعددها فحسب، بل قدرته على الجمع بين بنية تنظيمية مرنة ومستقلة مستوحاة من القانون الإنكليزي، وبين رؤية اقتصادية تصدر الإمارات كوجهة مالية عالمية، ليس للمستثمرين وحدهم بل للمواهب والخبرات والابتكار المالي. هذه المعادلة لم تجعل من المركز بوابة إلى الأسواق الإقليمية وحدها، بل إلى شبكات رأس المال العالمية أيضاً، خصوصاً مع تنامي دوره في جذب شركات إدارة الأصول، والصناديق التي تسعى إلى بيئة منظمة وآمنة في قلب منطقة شديدة الحيوية والاضطراب في آن.

ليس مبالغةً القول إن “مركز دبي المالي العالمي” بات يشكّل ما يمكن تسميته “وول ستريت الشرق الأوسط”، لا من حيث الحجم أو التاريخ بالطبع، لكن من حيث الوظيفة والدور المحوري؛ فكما لعبت وول ستريت في نيويورك دور الرافعة المالية والرمزية للاقتصاد الأميركي على مدى قرن، استطاعت دبي من خلال مركز دبي المالي أن تؤسّس لمنظومة مالية متكاملة تعكس قوتها الاقتصادية. كلا المركزين يمثلان أكثر من مجرّد تجمع للشركات والبورصات، إذ يرمزان إلى نمط حياة اقتصادي قائم على الثقة بالأنظمة، والقدرة على اجتذاب رأس المال، وحماية حقوق المستثمرين ضمن بيئة قانونية صارمة.

لكن ما يميّز دبي عن نيويورك هو مرونتها في ابتكار بيئة تنظيمية هجينة تستوعب الشركات التقليدية والناشئة، والمكاتب العائلية والصناديق السيادية، من دون أن تُثقلها قيود الضرائب المعقدة. كذلك، بنت دبي نموذجها الخاص، حيث تتقاطع رؤوس الأموال الآسيوية والخليجية والأوروبية في بيئة مفتوحة على التكنولوجيا والتمويل الأخضر. فدبي تمثل سردية جديدة في التموضع المالي، حيث تلعب الجغرافيا السياسية، والانفتاح الاقتصادي، والديبلوماسية الاستثمارية، أدواراً مكملة لحركة المال. إنها وول ستريت برؤية عربية – ديناميكية، تتجه بثقة نحو المستقبل.

اليوم، مع صعود مراكز مالية عالمية، يبقى “مركز دبي المالي” متقدّماً بفضل خبرته المتراكمة، وبنيته التشريعية، وقدرته على التكيّف مع متطلبات المستثمرين الدوليين، كما بات جزءاً من منظومة أوسع من السياسات الإماراتية التي تعتمد على جذب الكفاءات وتوسيع الشراكات الاقتصادية مع أوروبا وآسيا وأفريقيا. ومع اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) التي وقعتها الإمارات مع العديد من الدول، تحوّل المركز إلى منصة تسهّل التبادل المالي والتجاري.

لم تعد الحكاية عن منطقة حرة تسعى إلى جذب رؤوس الأموال، بل عن سياسات اقتصادية واعية، وكفاءة تنظيمية. فليس “مركز دبي المالي” قصة نجاح اقتصادي فحسب، بل نموذج لمستقبل دولة تبني تنميتها عبر الإنسان والاقتصاد.

 

* باحث وكاتب إماراتي