صراع النفوذ في سوريا: ضغوط تركية وموقف كردي متصلب تجاه الأسلحة

شهد الملف السوري خلال الأيام الماضية تصعيداً إعلامياً بين كل من الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) على شكل رسائل غير مباشرة تضمنتها التصريحات الصادرة من كلا الطرفين، فيما واصلت دمشق، الغارقة في تداعيات مجازر السويداء، حربها الإعلامية غير المعلنة على “قسد” من خلال المنصات والمؤثرين القريبين منها.
أنقرة تشرعن نفوذها العسكري في سوريا
أجبر فشل جلسة التفاوض التي احتضنتها دمشق بين وفدي الحكومة المركزية والإدارة الذاتية، واضطرار الحكومة السورية إلى سحب قواتها من السويداء جنوباً تحت وابل الضربات الإسرائيلية، أنقرة على الدخول مجدداً على خط دعم حكومة الرئيس أحمد الشرع، من خلال الإعلان عن استعدادها لتقديم دعم عسكري شامل بناءً على طلب رسمي من الحكومة السورية الانتقالية، ترافق ذلك مع تهديدات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بالتدخل العسكري للحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسلامتها.
تركيا، التي دعمت سابقاً المعارضة السورية المسلحة ضد نظام بشار الأسد، تسعى الآن إلى هندسة تحالفها بشكل جذري، بناءً على أولويات التعاون العسكري التركي-السوري، من خلال تعزيز القدرات الدفاعية السورية عبر حزمة دعم تشمل برامج تدريبية كثيفة للقوات السورية، واستشارات فنية وتخطيطية من الخبراء الأتراك، وتوريد معدات عسكرية متطورة، خصوصاً في مجال الدفاع الجوي.
وخشية تصدّر صورة المهيمن على القرار السياسي والعسكري في دمشق، غلّفت أنقرة هذا التعاون عبر عنوان عريض محبب غربياً، قائم على مكافحة التنظيمات الإرهابية، من دون أن تنسى في الوقت ذاته تكرار الإشارة إلى خطر “دعوات الانفصال”، والمطالبة بضرورة سيطرة دمشق على كامل الجغرافيا السورية.
اصطدمت محاولات أنقرة التوغّل العسكري جنوباً، من مناطق سيطرتها شمال الأراضي السورية، برسالة إسرائيلية صارمة معززة بالنار، حين أقدمت تل أبيب على قصف قواعد جوية في كل من حماة وحمص والبادية السورية، تمّت معاينتها من خبراء أتراك لاتخاذها مواقع عسكرية للجيش التركي.
ورغم الانخراط التركي الواسع النطاق في المفاوضات مع تل أبيب للتوصل إلى اتفاق لتحديد النفوذ في الجغرافيا السورية، وحث دمشق على التفاوض أيضاً لخفض التصعيد الإسرائيلي، إلا أن حوادث السويداء الأخيرة، وتمسك تل أبيب بموقفها الرافض أي اعتداء على الدروز أو تواجد لقوات عسكرية تابعة للحكومة السورية جنوب البلاد، دفع تركيا إلى تغيير خطتها، عبر شرعنة وجودها العسكري في سوريا من خلال الاتفاق الأمني-العسكري الذي أعلنت عنه وزارة الدفاع التركية في 23 تموز/يوليو الماضي.
“قسد” وأنقرة في اختبار الإرادات
وفي ظل تصاعد حدة التنافس الإقليمي بين تركيا وإسرائيل على “الكعكة السورية”، باتت الاستراتيجية التركية الخاصة بالإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها ترتكز على محورين رئيسيين:
سياسياً، تدفع أنقرة باتجاه دمج “قسد” في المؤسسة العسكرية السورية، شرط إلغاء هياكل الحكم الذاتي وتفكيك و”حدات حماية الشعب”، من خلال ممارسة ضغوط قصوى عليها، عبر الإعلان عن دعم دمشق في رفضها أي نوع من أنواع اللامركزية، والتهديد بعملية عسكرية مشتركة ضد مناطق سيطرة “قسد”، وعزل “قسد” دولياً عبر قطع خطوطها الديبلوماسية مع القوى الخارجية.
عسكرياً، تظهر أنقرة، من خلال إعلانها عن تدريب الجيش السوري التابع للحكومة المركزية وتسليحه، وتزويده المعدات الثقيلة ضمن خطة إعادة تأهيله، مدى استعدادها للانخراط العسكري المباشر إلى جانب دمشق، في حال لجوء الأخيرة إلى سيناريو مشابه لاجتياح السويداء.
وتحاول أنقرة، في معرض إعادة تعريف سياساتها الخاصة بسوريا، من دعم الإطاحة بالأسد إلى السعي لدور إقليمي كقوة ضامنة للأمن الذي “لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الحكومة المركزية الحالية”، توسيع التفويض الأميركي الممنوح لها على أرضية التوافق الأميركي-التركي على الموقف الداعم لحكومة الشرع.
واجهت “قسد” هذه التطورات بموقف متصلب، رافضةً بشكل قاطع المطالب التركية نزع سلاحها، معتبرة ذلك “خيانة للمكاسب التي تحققت بدماء الشهداء”.
وفي اللقاءات الإعلامية الكثيفة للشخصيات الكردية في الإدارة الذاتية و”قسد” خلال الأيام الماضية، تم التأكيد على المطالب التي تتمحور حيال الحفاظ على شكل متقدم من اللامركزية يشمل إدارة محلية كاملة للخدمات المدنية، وقوات أمنية محلية تحت مظلة الجيش السوري، وصلاحيات تشريعية وثقافية واسعة، مع رفض الاندماج العسكري الكامل، والاحتفاظ بقيادة مستقلة لوحدات الحماية الشعبية، بحيث يكون التنسيق الأمني مع دمشق من دون تبعية كاملة.
في الوقت ذاته، باتت “قسد” تواجه تحديات متصاعدة من جهات عدة، بدءاً من الضغط الأميركي المتزايد للتنازل، والتهديدات التركية المباشرة بعملية عسكرية، والتلويح من دمشق بقدرتها على إحداث تصدعات داخلية في مناطق شمال سوريا وشرقها في سيناريو مشابه للسويداء وتحت مسمى “فزعة العشائر”، وغيرها.
رغم كل التعقيدات السابقة، يؤكد الطرفان السوريان حرصهما على تجنب الصدام العسكري، وذلك بفعل الإرادة الأميركية الواضحة لجهة حل المسألة بالتفاوض، والتدخلات الدولية التي تضغط لإنجاح التسوية.
أمام هذا الواقع، انتقلت المفاوضات بين “قسد” وأنقرة إلى مرحلة اللقاءات المباشرة، في خطوة غير مسبوقة قد تؤدي إلى تغيير معادلات الداخل السوري.
توازنات سوريا الجديدة: القرار لواشنطن
في ضوء التطورات المتسارعة، تبرز تركيا كلاعب إقليمي بات يمتلك أدوات حقيقية لإعادة هندسة المعادلة السورية، ليس من خلال دعم حكومة دمشق الانتقالية فحسب، بل أيضاً عبر فرض رؤيتها لشكل الدولة. في المقابل، تجد الإدارة الذاتية الكردية نفسها في لحظة مفصلية بين التشبث بمشروعها اللامركزي ومواجهة التحديات السياسية والعسكرية المتعددة، وسط فتور الدعم الأميركي.
أما الداخل التركي، فليس بمنأى عن هذا الصراع، إذ تنذر تلك التحولات بإعادة فتح جروح القضية الكردية، ما بين آمال التسوية ومخاوف الانفصال. ووسط هذه المعادلات المتداخلة، ترى إسرائيل في النفوذ التركي المتعاظم التهديد الأكبر، وتعمل في الخفاء وبالمباشر لتعطيل هذا التوازن الجديد.
لكن النتيجة النهائية ستتحدد ليس فقط بموازين القوى العسكرية، ولا بقدرة الأطراف المختلفة على تقييم مصلحتها في إطار رؤية شاملة للاستقرار الإقليمي، بل بناءً على الموقف الأميركي الذي لا يزال يتفاوت بين الضغوط العلنية والصمت التكتيكي من دون الاقتراب من الحسم.