وزارة الخارجية السورية تُسهل عملية التخلي عن الجنسية: هل هو تغيير سياسي أم خطوة غير مدروسة؟

أثار تعميم صادر عن الإدارة القنصلية في وزارة الخارجية السورية استغراباً واسعاً في أوساط ديبلوماسيين وقانونيين وسياسيين، ممن أطلعتهم “النهار” على مضمونه بهدف دراسته ومعرفة خلفياته وأهدافه. وراوحت الآراء بين من رأى فيه محاولة غير موفقة لتسهيل شؤون السوريين، وبين من اعتبره ينطوي على مخالفات جسيمة للقانون والعرف الديبلوماسيين، وصولاً إلى من شكّك في وجود غايات سياسية وراء صدوره.
وقد تضمّن التعميم الرقم 5768، تاريخ 24 تموز/يوليو الجاري، والذي حصلت “النهار” على نسخة منه، توجهاً قانونياً وديبلوماسياً جديداً، يتعارض مع السياسات المتبعة في عهد النظام السابق وحتى ما قبله، بشأن موضوع شديد الحساسية من الناحيتين الأمنية والسياسية، وهو التخلّي عن الجنسية السورية بهدف الحصول على جنسية أخرى.
ونصّ التعميم على أنه “جرى التوجيه بالموافقة على منح المواطن السوري وثيقة بعنوان (إلى من يهمه الأمر)، تفيد بأن المواطن قد تقدّم إلى السفارة بطلب التخلّي عن الجنسية العربية السورية”، لكنه اشترط أن يُرسل طلب التخلّي إلى الإدارة القنصلية للحصول على موافقتها قبل إصدار الوثيقة من البعثة.
وبحسب ديبلوماسيين وقانونيين، فهذه المرة الأولى التي تصدر فيها وزارة الخارجية السورية تعميماً يتضمن تسهيلاً رسمياً للتخلّي عن الجنسية السورية، إذ كان العرف القنصلي والديبلوماسي، مدى العقود الماضية، يقوم على التغاضي عن هذه الطلبات أو التعامل معها كإجراءات شكلية لا يُرد عليها، باستثناء حالات محدودة تتعلّق ببعض دول الخليج التي تشترط التخلّي عن الجنسية الأصلية كأحد شروط التجنّس.
ويؤكد ديبلوماسي سابق منشق عن نظام الأسد، عمل في المجال القنصلي في عدد من السفارات العربية والخليجية، أن القنصليات السورية كانت تستقبل طلبات للتخلّي عن الجنسية من سوريين يسعون للحصول على جنسية دولة عربية أو أوروبية، لكن هذه الطلبات كانت تُرسل إلى الإدارة القنصلية وتُترك بلا ردّ. ويشير إلى أن السياسة السورية كانت تتشدد في هذا الملف، وهو ما تعكسه النصوص القانونية التي تشترط صدور مرسوم جمهوري للتجريد من الجنسية، في دلالة على أهمية الموضوع وخطورته.
ويرى المصدر، الذي تحدث إلى “النهار” شرط عدم الكشف عن اسمه لحساسية الملف، أن صدور هذا التعميم “الغريب” قد يكون ناتجاً من “قلة خبرة” الطاقم الحالي في وزارة الخارجية، و”عدم إلمامه الكافي بأصول العمل القنصلي والديبلوماسي”، مستبعداً في المقابل وجود دوافع سياسية خلف القرار. ويرجّح أن تعمد الوزارة إلى التراجع عنه إذا أُبلغت مخاطره وتداعياته.
من جهته، يؤكد فائق حويجة، الباحث القانوني والناشط السياسي المعروف، إن قانون الجنسية لعام 1969 يجيز ازدواج الجنسية، وبالتالي فإن الراغب في الحصول على جنسية أخرى ليس ملزماً قانونياً التخلّي عن جنسيته السورية.
ويوضح لـ”النهار”، أن القانون لا يجيز للسوري التخلي عن جنسيته بإرادة منفردة، مشيراً إلى أن نزع الجنسية مشروط قانونياً بارتكاب جرائم محددة مثل الخيانة أو التجسس.
وقد أجمع من أطلعتهم “النهار” على مضمون التعميم على أنه “ينطوي على مخالفات قانونية وديبلوماسية عدّة”، أبرزها أن ملف الجنسية من اختصاص وزارة الداخلية، في حين أن التعميم لم يستند إلى أي قرار صادر عنها، ما يُظهر تعدّي وزارة الخارجية على صلاحيات وزارة سيادية.
ويكشف مصدر ديبلوماسي سوري يعمل في الخليج أن العديد من رجال الأعمال السوريين أعربوا أخيراً عن رغبتهم في الحصول على جنسية خليجية، لكنهم اصطدموا بشرط التخلي عن الجنسية السورية. ويوضح أن هذا “شكّل ضغطاً على وزارة الخارجية، فاستجابت بإصدار التعميم لتسهيل حصولهم على الجنسية”، غير أنه عبّر عن استغرابه من تعميم القرار على جميع البعثات بدل الاقتصار على سفارات معينة، كما استهجن أن يُنشر التعميم بشكل رسمي، في حين أن مثل هذه المواضيع “تُدار عادة بسرّية تامة نظراً الى حساسيتها”.
ويُعيد هذا التعميم طرح قضية التخلّي عن الجنسية في سياق سياسي مهم يرتبط بالمرحلة الانتقالية في سوريا، خصوصاً في ما يتعلق بملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم في عهد النظام السابق، إذ إن تخلّي هؤلاء عن جنسيتهم قد يعوق محاسبتهم لاحقاً أو المطالبة بتسليمهم بعد مرور خمس إلى سبع سنوات.
وفي هذا السياق، يصف الدكتور مالك الحافظ التعميم بأنه “انزلاق إداري في ممارسة الصلاحيات”، معتبراً أن الجنسية من صلب اختصاصات وزارة الداخلية بصفتها الجهة السيادية المعنية بسجلات الأحوال المدنية.
ويقول، في تصريح لـ”النهار”، إنه “لا يجوز للبعثات الديبلوماسية أن تتولى مثل هذه المهمات من دون تنسيق واضح مع وزارة الداخلية، وهو ما لا يبدو أن التعميم يثبته”.
ويرى الحافظ أن التعميم ربما جاء لطمأنة فئة من السوريين في الخارج ممن يشعرون بالاغتراب القانوني، بأنه لن تُعرقل محاولاتهم للحصول على جنسية ثانية تتيح لهم الاستقرار القانوني، لكنه يحذّر من أن يكون هذا التوجه “يعكس رغبة السلطة في إعادة صوغ علاقتها مع الشتات السوري”، متسائلاً: “هل التعميم يُعدّ اعترافاً غير مباشر بأن الدولة لم تعد تعتبر هؤلاء جزءاً من مشروعها السياسي المقبل؟”.
كذلك، يبدي قلقه من احتمال ألا يقتصر الأمر على مجرّد تجاوز إداري، بل أن يشير في عمقه إلى “تحوّل بنيوي في آلية إدارة الهويات والانتماءات السورية في الخارج”.