بين التوترات المسلحة والحوار: إيران تواجه نقطة تحول جديدة

حتى ما قبل الحرب التي استمرت 12 يوماً، كانت لدى الجمهورية الإسلامية خيارات متعددة لتخفيف الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية التي تمارسها الولايات المتحدة، بهدف – كما يعبّر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي – منع الحرب وتجنّب التفاوض المباشر مع واشنطن. لقد كرر مراراً أنه “لن تكون هناك حرب ولن نتفاوض مع أميركا”. وقد كانت هذه السياسة فعالة حتى 13 حزيران/يونيو 2025. لكن بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران، وبمشاركة الولايات المتحدة في استهداف المنشآت النووية الإيرانية، يبدو أن هذه السياسة قد وصلت إلى نهايتها، إذ أصبحت خيارات إيران محدودة من جهة، ومدة اتخاذ القرار تقتصر على نحو شهرين من جهة أخرى.
في السابق، استخدمت الجمهورية الإسلامية إنجازاتها النووية ورقة ضغط أو أداة تفاوض في المحادثات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، التي أجريت عبر خمس جولات بوساطة عمانية. كما نجحت، من خلال المناورات العسكرية، في منع اندلاع الحرب. لكن بعد الحرب الأخيرة، تكبدت المنشآت النووية الإيرانية أضراراً كبيرة، كما اكتسبت إسرائيل، رغم القصف الصاروخي الإيراني على مدنها والذي أدى إلى طلب وقف النار، جرأة أكبر على تهديد إيران ومهاجمتها. ولعل هذا ما دفع خامنئي إلى مطالبة القوات المسلحة الإيرانية، في رسالة تعزية بمناسبة أربعينية شهداء الحرب الأخيرة، برفع جاهزيتها للدفاع عن البلاد.
في مثل هذه الظروف، ومع المهلة التي حدّدتها الدول الأوروبية لتفعيل آلية “الزناد” خلال الشهرين المقبلين، تواجه طهران خيارين رئيسيين:
الخيار الأول: الاستمرار في سياسة رفض التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة، ما سيؤدي إلى تفعيل آلية “الزناد” وتجدد الاشتباكات مع إسرائيل، التي أعلنت مراراً أنها ستهاجم إيران مجدداً إذا شعرت بأي تهديد من جانبها.
الخيار الثاني: التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة بهدف التوصل إلى اتفاق، وربما حتى إقامة علاقات ديبلوماسية. ويعتقد مسؤولون في الجمهورية الإسلامية أن إسرائيل لا يمكن أن تشكل تهديداً لإيران من دون دعم وموافقة أميركيين، وأن تحسين العلاقات بين طهران وواشنطن سيؤدي عملياً إلى تحييد التهديد الإسرائيلي. ولهذا السبب، كانت تل أبيب ولا تزال الخصم الأشد معارضة لأي اتفاق محتمل بين الجانبين.
إيراني يرفع صورة خامنئي خلال تظاهرة داعمة لغزة في طهران. (أ ف ب)
وفي هذا السياق، تشير أنباء غير رسمية إلى أن الرئيسين الإيرانيين السابقين محمد خاتمي وحسن روحاني، وجّها رسائل منفصلة إلى خامنئي، يطلبان فيها اتخاذ قرار بالتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة. وقد سبق لروحاني أن أدلى مراراً بتصريحات حيال ضرورة إقامة علاقات مع واشنطن، بل أجرى، خلال رئاسته، مكالمة هاتفية مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، كانت الأولى منذ الثورة الإسلامية.
كذلك، يُقال إن ديبلوماسيين سابقين في وزارة الخارجية الإيرانية، بقيادة محمد جواد ظريف، وجّهوا رسائل منفصلة إلى خامنئي، يطالبون فيها بالتفاوض وإقامة علاقات مع الولايات المتحدة لحل الخلافات المتراكمة منذ سنوات. لم تُنشر أخبار هذه الرسائل في وسائل الإعلام الإيرانية بعد، لكن في الوقت نفسه، نُشرت عشرات المقالات والتعليقات من محللين ومعلقين سياسيين إيرانيين في الفضاء الافتراضي ووسائل الإعلام، تحمل المعنى ذاته.
و مدى العقود الثلاثة الماضية، أجريت مرات عديدة مراسلات مشابهة من مسؤولين وناشطين سياسيين وحزبيين إلى خامنئي بشأن العلاقات مع أميركا، لكن موقف المرشد كان دائماً معارضاً، مستنداً إلى أن الوعود الأميركية لا يمكن الوثوق بها. الاستثناء الوحيد كان في عام 2012، حين سمح خامنئي بالتفاوض المباشر مع الولايات المتحدة بعد تلقيه رسائل من أوباما. ونتيجة لذلك، أمر وزير الخارجية آنذاك علي أكبر صالحي بالدخول في مفاوضات مع الأميركيين لرفع العقوبات، ومن المثير للاهتمام أن الرئيس آنذاك محمود أحمدي نجاد لم يكن على علم بهذه المفاوضات. وقد أدت هذه المفاوضات في عهد روحاني إلى التوصل للاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة).
من جهة أخرى، ادّعى أحمدي نجاد، أخيراً في تصريحات مثيرة للجدل، أن هناك فرصاً مناسبة للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة في السنوات الماضية، لكن الجمهورية الإسلامية أضاعتها.
في المقابل، ينشط معارضو التفاوض مع أميركا في إيران بقوة ونفوذ كبيرين، وهم يرون أن الولايات المتحدة، حتى في المفاوضات التي سبقت الحرب، خدعت إيران، وبالتالي فإن التفاوض مع إدارة الرئيس دونالد ترامب لن يجدي نفعاً، بل سيؤدي إلى المساس بالكرامة الوطنية في حال استئناف المفاوضات. لكن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي رفض هذا الادعاء في مقابلة تلفزيونية، موضحاً أنه لو لم تُجرِ إيران مفاوضات مع أميركا، لاتهِمت اليوم بأن الحرب المفروضة عليها كانت نتيجة عدم التفاوض، بينما فرض الحرب بالتزامن مع المفاوضات يُظهر صحة منطق إيران الديبلوماسي وقوته.
بدأت الديبلوماسية الإيرانية الجديدة بعد الحرب بمحادثات بين نواب وزراء خارجية إيران والدول الأوروبية الثلاث في إسطنبول الجمعة الماضي، ويبدو أنها ستستمر في الأسابيع المقبلة. لكن ما إذا كانت ستقود إلى مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة أم لا، فذلك يعتمد على رأي خامنئي وقراره.
ولفهم مدى صعوبة قرار المرشد الأعلى وتعقيده، يجب ملاحظة أن عدم التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة قد يؤدي إلى تفعيل آلية “الزناد”، واستعادة العقوبات الدولية على إيران، وربما حتى حرب جديدة ضدها. من ناحية أخرى، لا توجد ضمانات بأن التفاوض المباشر مع واشنطن سيؤدي إلى اتفاق بنّاء يمنع حرباً جديدة، ويخفف العقوبات الاقتصادية والمالية والمصرفية المفروضة على طهران أو يرفعها. ويبدو أن دور الدول الإقليمية المهمة، مثل السعودية والإمارات وقطر، يمكن أن يكون مؤثراً للغاية في التوصل إلى اتفاق.