القوميّة الدينية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي: منظور جديد لدراسة الديناميكيات الهويّاتية والسياسية

*الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ
أثار إعلان الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون عن نيّة بلاده الاعتراف بدولة فلسطين في أيلول القادم مجادلات كثيرة، لا بشأن الجدول الزمنيّ فحسب، بل جدوى الحلّ بحدّ ذاته في ظلّ الأوضاع الراهنة أيضًا. غير أنّ المشكلة تتجاوز المستوى السياسيّ والأمنيّ؛ ذلك أنّه يتّصل بديناميّات أعمق، تشغل فيها القوميّة الدينيّة المتأصّلة بقوّة في المعسكرَين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، مكانًا مركزيًّا. فإنّ فهم هذه الظاهرة يمثّل مفتاحًا لإدراك طبيعة الصراع إدراكًا واقعيًّا أشدّ، إذ يُبيّن التشابك القائم بين الهويّة الوطنيّة والعقيدة الدينيّة، بحيث لا تبقى الأرض قضيّة سياسيّة، بل تتحوّل إلى مساحة تكتسب طابعًا قدسيًّا، الأمر الذي يجعل من أيّ تسوية أمرًا صعبًا.
إنّ المقصود بالقوميّة الدينيّة المعاصرة الاندماج بين الانتماء القوميّ والهويّة الدينيّة، وليس مجرّد استغلال سياسيّ للدين أو تحالف السلطتَين السياسيّة والدينيّة. فإنّ هذا الاندماج يجعل من الهويّة الدينيّة شرطًا للانتماء القوميّ، خالقًا حالة إقصاء بديهيّة لجميع أتباع الديانات الأخرى أو غير المؤمنين، حتّى ولو كان هؤلاء ينتمون إلى الكيان السياسيّ نفسه. وقد ساهمت عومل عدّة في تطوّر هذه القوميّة، منها إخفاق المشاريع القوميّة العلمانيّة في القرن العشرين، مثل الماركسيّة والقوميّة العربيّة والثورات الاشتراكيّة، ونتائج العولمة السلبيّة على الهويّات التقليديّة التي لم تتأثّر كثيرًا بعناصر الحداثة. لذا، تُقدَّم القوميّةُ الدينيّة بديلاً هوياتيًّا راديكاليًّا يقوم على العودة إلى “الأصالة” المفقودة أو المهملة، والمناداة بمجتمع مثاليّ، وإضافة صفة قدسيّة على الأمّة. ومن البديهيّ أن يؤدّي هذا المسار من التقديس المرفق بالإقصاء، إلى عنف بنيويّ، أي ذلك العنف الذي يتجلّى من خلال الأنظمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي تُنتج حالات عدم مساواة على مختلف الأصعدة، ويمكن أن يتحوّل إلى عنف جسديّ مباشر في وجه “الخونة” في الداخل و/أو “أعداء الإيمان”.
وفي الواقع، يتميّز أتباع القوميّة الدينيّة بهوسهم بالقضاء على العدو الداخليّ، إذ إنّه يمثّل في نظرهم خطرًا وجوديًّا على مشروعهم القوميّ-الإلهيّ. لذا، تراهم يجهدون للسيطرة على كلّ ما يتّصل بالتعليم والثقافة والإعلام، بهدف التحكّم بمكوّنات الذاكرة التاريخيّة وطريقة فهم الحاضر، وإخفاء الاختلافات أو الانقسامات الداخليّة المتعدّدة والمعقّدة، مثل الاختلافات الاجتماعيّة والعرقيّة والمناطقيّة وغيرها.
وُلدت القوميّة الدينيّة في إسرائيل من الحركة الصهيونيّة التي كانت تتّسم في البداية بنزعة علمانيّة. غير أنّ عمليّة دمج البُعد الدينيّ في السياسة أدّى تدريجيًّا إلى تبنّي المراجع الدينيّة بغية تبرير طموحات التوسّع الجغرافيّ. وفي حين أنّ هذه الحركة لم تكن صاحبة وزن شعبيّ وسياسيّ في البداية، فإنّ دورها عرف تضخيمًا متسارعًا من خلال تقديم قراءة لاهوتيّة للمشروع القوميّ، الأمر الذي جعل منها اليوم قوّة سياسيّة رئيسيّة.
لقد اكتسبت الحركة الصهيونيّة بُعدًا لاهوتيًّا قوميًّا بدأ مع الحاخام أبراهام إسحق كوك، وعرف تطرّفًا متصاعدًا في أعقاب حرب الأيّام الستّة العام 1967، محوّلاً دولة إسرائيل وتوسّعها الجغرافيّ إلى عملٍ مسيحانيّ، أي عمل يندرج في الإعداد للخلاص الإلهيّ. لذا، عُدّ الاستيطان جزءًا من هذا القصد الإلهيّ. وباتت، بالتالي، كلّ مساومة تتّصل بالأرض مرفوضة لاهوتيًّا. وعزّز هذا التوجّه التحالف الذي قام بين أنصار الحركة الصهيونيّة الدينيّة واليمين القوميّ في سبعينيّات القرن المنصرم، فاكتسب العمل السياسيّ نفسه طابعًا لاهوتيًّا قدسيًّا.
ومع مرور الوقت، تقسّى خطاب القوميّة الدينيّة وازداد تطرّفًا، فانزلق نحو منطق الإقصاء العرقيّ-الدينيّ. وباتت الأحزاب المتفرّعة من الصهيونيّة الدينيّة تطالب بضمّ الأراضي الفلسطينيّة كافّة، وترفض أيّ اعتراف سياسيّ بالفلسطينيّين. ولا عجب أن تكون هذه السياسة قد غذّت أعمال العنف، وأحيانًا بطريقة منهجيّة، في وجه الفلسطينيّين، باسم حقوق الشعب اليهوديّ التاريخيّة والدينيّة، كما والخطاب الارتيابيّ إزاء “أعداء الداخل”.
وممّا لا شكّ فيه أنّه بالرغم من نزعة القوميّة الدينيّة القويّة، يبقى المجتمع الإسرائيليّ منقسمًا بين العلمانيّين والمتديّنين المعتدلين والأثوذكس المتشدّدين، الأمر الذي يُبرز أنّ ثمّة معركة ثقافيّة غير سهلة مرشّحة للتفاقم في ضوء نتائج الحرب الدائرة في غزّة وردود الفعل المحليّة والدوليّة عليها. وتنطوي هذه المعركة الثقافيّة على رؤى متعارضة لهويّة الدولة وطبيعتها، وبالتالي لعلاقاتها المستقبليّة بمحيطها.
وفي ما خصّ القوميّة الدينيّة الفلسطينيّة، فإنّ صيغتها الحديثة أتت في أعقاب تراجع الحركات القوميّة العلمانيّة المتأثّرة بشكل أساسيّ بالاشتراكيّة، عن المشهد السياسيّ الفلسطينيّ منذ نهاية سبعينيّات القرن الماضي، مثل فتح والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. فقد بدأت تبرز التشكيلات الإسلاميّة مثل حماس وحركة الجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّ، ردّ فعلٍ على إخفاقات القوميّة العلمانيّة والأنظمة الثوريّة الاشتراكيّة في مواجهة إسرائيل، متأثّرةً أيضًا بالتحوّلات الإقليميّة، ولا سيّما الثورة الإسلاميّة في إيران العام 1979. وفي الواقع، إذا كانت حركة فتح لم تكن علمانيّة بالكامل، إذ أبقت الإسلام هويّتها ومرجعها الأخلاقيّ، فإنّها لم تتبنَّ مشروعًا تيوقراطيًّا. في حين أنّ حركة حماس المنبثقة عن الإخوان المسلمين قد أمَّمت مشروعها تدريجيًّا، مكيّفة إسلامويّتها مع متطلّبات النضال في وجه الاستعمار. وبالرغم من أنّ الحركة اعترفت بحدود 1967، فإنّها لم تعترف بدولة إسرائيل، وأبقت على هدفها الرئيسيّ القاضي بتحرير أرض فلسطين “من النهر إلى البحر”، لا بصفتها أرضًا قوميّة سياسيّة فحسب، بل أرض مقدّسة؛ فإنّها “وقف إسلاميّ” غير قابل للتفاوض. وتتّفق حركة الجهاد الإسلاميّ المتأثّرة بالثورة الإسلاميّة في إيران مع حماس بشأن هذه النقطة الأخيرة، إذ إنّ تحرير فلسطين يمثّل واجبًا دينيًّا إلزاميًّا. فالاختلاف الأيديولوجيّ بين الحركتَين، ولا سيّما رفض حركة الجهاد الإسلاميّ أيّ شكل من أشكال المشاركة السياسيّة أو العمليّة السلميّة، لم يحل دون توظيف الدّين في إطار المقاومة الوطنيّة التي اكتسبت بُعدًا جهاديًّا، مع إضفاء طابع قدسيّ على الأرض الفلسطينيّة.
في كلتا الحالتَين، الإسرائيليّة والفلسطينيّة، تكتسب ظاهرة القوميّة الدينيّة أهميّة كبيرة في رسم وجهة القضيّة الفلسطينيّة بالنظر إلى تداعياتها السياسيّة. فمن الناحية الإسرائيليّة، تُضفي القوميّة الدينيّة طابعًا قدسيًّا على الأمّة والأرض، وتنتهج سياسة توسعيّة وإقصائيّة، بل وعدائيّة إزاء كلّ ما هو مختلف ويمثّل “عدوًّا داخليًّا”، مُدرجة دولة إسرائيل في سياق قصد الله الخلاصيّ. ومن الناحية الفلسطينيّة، يجري توظيف الدّين لإضفاء طابع قدسيّ على الجهاد والأرض في آن واحد، بالرغم من التفاوت في الإستراتيجيّات المتّبعة بين حماس وحركة الجهاد الإسلاميّ. وممّا لا شكّ فيه أنّ تفاقم القوميّة الدينيّة في المعسكرَين، وتحويل الصراع إلى صراعٍ لاهوتيّ، وإضفاء طابع قدسيّ على العمل السياسيّ والعسكريّ، سيؤدّي إلى استبعاد الحلول القائمة على التسويات، ويغذّي حالة العداء والتباعد بين الشعبَين.
فلسطينيون يحصلون على مساعدات (أ ف ب).
لا بدّ لكلّ عمل يهدف إلى إيجاد حلول للصراع في فلسطين، من السعي لتفكيك أو إضعاف القوميّة الدينيّة، لا من خلال التشديد على طابع النزاع السياسيّ فحسب، بل من خلال إبراز أهميّة احترام القوانين الدوليّة وحقوق الإنسان. ويمكن الأمم المتّحدة أن تضطلع بدور الوسيط المحايد والضامن المعياريّ، إذ ترسم أطرًا تفاوضيّة مجرّدة من كلّ بُعدٍ دينيّ، وتستند إلى مبادئ العدالة والمساواة والسيادة. كما وأنّ مساهمة المنظّمات الدوليّة الديموقراطيّة وحقوق الإنسان في علمنة الحقل السياسيّ، بالتعاون مع الأحزاب والحركات الوسطيّة، أمر ضروريّ، لا لعزل الإيمان، بل لمنع استغلاله، وإعطائه مكانه الطبيعيّ والإيجابيّ في الوسطَين الفلسطينيّ والإسرائيليّ على السواء. وخلاصة القول إنّ كان إقصاء القوميّة الدينيّة عن السياسى ضروريًّا لفتح الطريق إلى التوصّل إلى تفاهمات وحلول سلميّة، فإنّ العمل الثقافيّ لإعطاء الدّين دوره الإيجابيّ ضروريّ بالقدر نفسه، بغية خلق جوّ يقرِّب بين الشعبَين، بعيدًا عن الخطابات التي تدعو إلى الهيمنة المقدّسة وإلغاء الخصم. لا تُربح معركة السلام في العمل السياسيّ والقانونيّ فقط، بل بالأخص في العقول والقلوب، من خلال نضال ثقافيّ دؤوب يهدف إلى تحرير الدّين من السياسة، ومن أجل حريّة التفكير والتسامح والمعرفة.
*أستاذ في جامعة القديس يوسف