فيروز بعد فقدان زياد: لبنان يفقد غصنه الأخير.

فاروق غانم خداج
كاتبٌ لبنانيٌّ وباحثٌ في الأدبِ والفكرِ الإنسانيّ
في صباحٍ كئيبٍ من صباحاتِ تموز، استيقظَ لبنانُ على خبرٍ يُثقلُ القلوبَ، لكن لا يُفاجئُ النفوسَ: رحيلُ زيادِ الرحباني. الرجلُ الذي كانَ لسانَ العقلِ الحزينِ، وصوتَ بيروتَ في شوارعِ مسرحِه، هو الذي أحبَّ لبنانَ، حتى في لحظاتِ الغضبِ والهجاءِ. لم يكنِ ابنَ فيروز وحده، بل كانَ خيطًا متينًا يُمثِّلُ عبقريةَ أبيه عاصي الرحباني، وفنَّ أمِّه فيروز، حصادَ تحالفٍ نادرٍ بين موهبتَين أسَّسَتا لنهضةِ الفنِّ اللبنانيِّ.
لكنْ اليوم… فيروز وحدَها.
المرأةُ التي غنَّت: “راجعين يا هوى” وهي تسيرُ نحوَ المدى، تقفُ اليومَ في صمتِ الأمِّ الذي يفوقُ الوصفَ، أمامَ نعشِ ابنِها، تُودِّعُه… كما ودَّعَتْ قبلَهُ زوجَها، رفيقَ دربِها، وملحِّنَ أنفاسِها، عاصي الرحباني، ثمَّ أخاه منصور، ثمَّ رفيقَ صوتِها نصري شمس الدين، ثم أمَّها، ثم أخيرًا زياد، الذي كانتْ صلتُه بها أعمقَ من كلماتٍ أو أزمانٍ، رغمَ ما قيلَ من ابتعادٍ أو اختلافٍ.
مَن يملكُ شجاعةَ أن يُعزِّي فيروز؟
مَن يملكُ الجرأةَ ليُواسيَ صوتًا كانَ يُواسي شعوبًا كاملةً في حروبِها وألمِها؟
اليومَ، لم تُفتح دورٌ للعزاء، ليس لأنَّ الحزنَ قليلٌ، بل لأنَّه أكبرُ من كلِّ القاعاتِ والورود. فيروز لم تتحدَّث، لم تخرج، فهي لم تكنْ يومًا من أصحابِ الكلماتِ السهلةِ، بل صوتُها كانَ لغةَ الألمِ والفرحِ معًا. وحينَ يصمتُ الصوتُ، يُصبحُ الوجعُ أبَدًا.
تخيَّلوا أمًّا تمشي خلفَ نعشِ ابنِها، أمًّا كانت تُنادَى على المسرح: “الأرزة”، ها هي اليومَ ترتجفُ كغُصنٍ هشٍّ أمامَ ريحِ الموتِ.
في مراهقتِه، كانَ زياد يتمرَّدُ على كلِّ القوالبِ والقداسةِ، حتى على “قدسيَّةِ فيروز” التي عشقَها الناسُ، لكنه كانَ يبني جمهوريتَه الفنيَّةَ على طريقتِه. عاش كما أراد: بسيطًا، ساخرًا، شفافًا، مريضًا، مقاومًا، عاشقًا… وإنْ بدا مختلفًا.
علاقتُه بأمِّه كانتْ أكثرَ من علاقةِ ابنٍ وأمٍّ؛ كانت فنًّا بصوتٍ، وموسيقى بنشيدٍ، وإرثًا في الأبديةِ. عادَ للتلحينِ لها بعد انقطاعٍ، وابتعدَ، واقتربَ، كأنَّها قصيدةٌ شعريةٌ تتأرجحُ بين القربِ والفقدِ، لكنْ بلا قطيعة.
فيروز، التي احتفظتْ بصمتِها طيلةَ السنواتِ الماضيةِ، لم تنسحبْ من قلوبِ الملايينِ، ولم تغِبْ من ذاكرةِ الوطنِ. كانتْ على الهامشِ، تحفظُ للبنانَ شيئًا، تقولُ له: “لا تخف، ما زلتُ هنا”.
واليوم، بعدما ودَّعت زيادًا، هل يبقى شيءٌ لتقولَه؟
ربما تصمتُ طويلًا… لكنَّ صمتَها سيكونُ تراتيلَ تبكي شهيدًا.
يروي من رآها في وداعِ ابنِها أنَّ فيروز كانتْ تمشي ببطءٍ، كأنها تسيرُ عبرَ الأعوامِ لا الأمتارِ. وجهُها شاحبٌ، لكنَّه ثابتٌ، لم تصرخْ ولم تنهَرْ، كانتْ في طقسِ صلاةٍ خاصٍّ، لا يفهمُه إلا من ذاقَ الفقدَ الأقصى.
هي التي قالتْ في أغنيتها القديمة:
“أنا عندي حنين… ما بعرف لمين…”
الحنينُ اليومَ له وجهٌ: صوتُ عاصي، ابتسامةُ منصور، جنونُ زياد، وابنتُها ليال الرحباني، التي رحلتْ قبلَه، تاركةً في قلوبِ العاشقين فراغًا لا يملؤُه إلا صوتُ فيروز الأبدي.
فيروز لم تعدْ تُغنِّي على المسارحِ، لكنَّ صوتَها خالدٌ.
من غنَّى: “سألوني الناس”، و”كان الزمان”، و”كيفك إنت”، لا يموت.
اليومَ نسمعُ صوتَها من بعيدٍ، كصلاةٍ أو ترتيلةٍ، أو هَمسِ ملاكٍ يقولُ للبنانَ: اصبر.
لكننا نعلمُ، جميعُنا، أنَّ الصبرَ هذه المرَّة أقسى، لأنَّ زيادًا لم يكنْ كأيّ رحيلٍ، بل غيابُ وطنٍ في بيتٍ صغيرٍ اسمه فيروز.
لا نعرفُ إنْ كانتْ ستُغنِّي بعده، لكنْ إنْ فعلتْ، فسيبكي الصوتُ نفسه. وإنْ صمتتْ، فالصمتُ سيُغنِّي وحدَه، بنغمةِ الحزنِ التي لا تنتهي.
فيروز، أيقونةُ الأمومةِ، والفنِّ، والصبرِ، تبقى أرزةَ لبنانَ الصامدةَ، التي، بفقدانِ غُصنِها الأخيرِ، تُذكِّرُنا أنَّ الجذورَ هي ما يبقى مهما هبَّتِ الرياحُ.