زياد الرحباني… رسول الألم الخفي

زياد الرحباني… رسول الألم الخفي

الأب فادي سميا 

 

 

ليس من السهل أن تكتب عن زياد الرحباني. فهو ليس “فنانًا” فقط، ولا مجرد ابن فيروز وعاصي. زياد حالة، وعي جارح، صرخة تسكنها سخرية، وسخرية يسكنها وجع، وصمتٌ يحكي أكثر من آلاف الخُطب.
وأنا أكتب عنه الآن، لا أبحث عن تصنيفه، بل أكتب لأنّي أشعر أنه واحد من الذين لم يُنصفهم شعبهم كما يجب. وكم من نبيّ رُجم لا لأنه كذب، بل لأنه صدق.
أنت يا زياد، الرؤيوي الذي رأى ما لم نكن نريد أن نراه. تنبّأت بانهيار وطن، لا من خلال نشرات الأخبار، بل من خلال تفاصيل الحياة اليومية: في التزوير، في الطائفية المقنّعة، في القهر المغلّف بالضحك. كنت تفضحنا ونحن نضحك. تجعلنا نواجه أنفسنا ونحن نصفّق لك. تشتمنا ونظنّك تمزح.
لكنك لم تكن تمزح. كنت تتألّم. ومن يعرف أن يتألّم، يعرف أن يرى.
لم تُهادن، لا السلطة ولا الدين.
قد يزعجك زياد إن كنتَ متديّنًا من الخارج فقط. يزعجك حين يسخر من الدين الطقوسي، من الإيمان المعلّب، من الصلوات التي تُتلى بلا محبة.
لكنه لم يكن يسخر من الله، بل كتب له اجمل الترانيم، بل كان يفتّش عنه وسط خراب المدينة.
يبحث عنه في المقهورين، في الحزانى، في الذين “ما بقى فيهم يِصدّقوا”، في الذين خذلتهم الوعود، وتاهوا بين منابر السياسة وأسرّة المستشفيات.
كثيرًا ما شعرنا أنه يقول ما لا يجرؤ كثيرون على قوله.  
كان صادقًا حدّ الوجع، ضعيفًا حدّ الإنسانية، عنيدًا كأنّه يحمل نبوءة لا مكان لها في هذا الزمن.
في زمن الكذب الجماعي، يصبح الصدق فعلاً انتحاريًا. وزياد اختار أن يكون صادقًا حتى الثمالة.
سكت زياد اليوم
لأنّ الصوت حين لا يُصغى له، يتحوّل إلى صمت.
والنبي حين يتعب من التحذير، يعود إلى الجبل، كما فعل إيليا، ليقول لله:
“خذني، لقد تعبت”.

 

 

لكن حتى في صمته، زياد ما زال يُحاورنا. كلماته تنخر في وعينا، موسيقاه تسكن وجداننا، ومسرحياته تحفر في ذاكرتنا كأنها كُتبت البارحة.
زياد، إِعلم أن هناك من صدّقك.  
من رأى فيك مرآة، لا مسرحًا.  
من اعتبرك نبيًّا، لا مهرّجًا.  
من سمع صمتك، كما يسمع المؤمن أنين الروح.
قد لا نوافقك على بعض أفكارك و سياستك، وقد لا نتبنّى بعض نظرتك إلى الله أو إلى الإنسان أو إلى الإيمان كما طرحتها،  
لكننا لا نملك إلا أن نرفع القبّعة أمام عبقريّتك.
فأنت العبقري الذي لن تُعاد.  
وحدك كنت تجرؤ أن تقولها كما هي. بنقصها و كمالها… 
وهذا… لا يفعله إلا الكبار.
استرح بسلام