_عندما تُغلق العيون وتُشعل الشاشات_ قصة الطفولة بين النور والفراغ (1)

ليا ابراهيم
في عصر الشاشات المتوهّجة، أصبحت الأضواء الإلكترونية جزءاً من يوميات الرضّع والأطفال قبل أن يكتمل نطقهم أو إدراكهم للعالم. هذا الاستخدام المبكر يثير تساؤلات علمية وإنسانية حيال تأثيره على نموهم المعرفي والانفعالي.
يؤكد علماء النفس التنموي أن دماغ الطفل في سنواته الأولى يكون في أوج تطوره، ويحتاج إلى محفزات حيّة مثل اللمس، تعابير الوجه، والنغمة البشرية. هذه التجارب تساعده على تطوير اللغة والتنبه والضبط الذاتي، وهي مهارات يصعب اكتسابها من خلال شاشة جامدة.
دراسات حديثة، منها ما نُشر في JAMA Pediatrics، أظهرت أن كثرة التعرض للشاشات ترتبط بتأخر في المهارات اللغوية وضعف التركيز. المحتوى المعروض غالباً سريع وغير متناسق مع وتيرة التعلم الطبيعية، مما يشتت التنبه ويعوق التفكير العميق.
سلوكياً، يعاني بعض الأطفال من تقلبات مزاجية، نوبات غضب، وصعوبة في تهدئة النفس، نتيجة لغياب التفاعل الاجتماعي المباشر. فتنظيم الانفعالات لا يُكتسب من الصور المتحركة بل من العلاقة الحية مع الأهل والعالم.
إضافة إلى ذلك، تقضي الشاشات على لحظات اللعب الرمزي، وتحدّ من استخدام اللغة في التفاعل اليومي. وهنا تفقد الطفولة واحدة من أهم أدواتها: الخيال والتواصل.
تشير دراسة “جورج وآخرون” (2018) إلى أن التفاعل اللفظي مع الأهل يُحفّز تطور الذكاء العاطفي واللغة. وعندما يُستبدل هذا الحوار بالشاشة، يخسر الطفل فرصاً ثمينة للنمو والتعلم الداخلي.
الخطير أيضاً أن الشاشات تُستخدم أحياناً وسيلة لتهدئة الطفل، مما يعزز اعتماده على المثيرات الخارجية لخفض توتره. وهذا يمنع تطور قدرته على التهدئة الذاتية، وهي ركيزة في الصحة النفسية.
أدوات مثل مقياس “برازلتون” تقيس قدرة الطفل على التفاعل والتنبه. ويُظهر بعض الدراسات أن الأطفال المعرضين بكثافة للشاشات يسجلون درجات أقل في هذه المؤشرات، مقارنة بأقرانهم الذين يعيشون تفاعلاً بشرياً نشطًاً.
وفي دراسة تصوير دماغي نُشرت في Nature Communications (2019)، تبيّن أن التعرض الكثيف للشاشات يرتبط بتغيّرات في المادة البيضاء في الدماغ، بخاصة في المناطق المسؤولة عن اللغة والتنظيم التنفيذي.
من المهم التنبيه الى أن الأثر لا يتعلق بمدة المشاهدة فحسب، بل بنوعية المحتوى وطريقة التفاعل. فالمشاهدة المشتركة مع الأهل قد تقلّل من الضرر، لكنها لا تُعوّض غياب التفاعل الحقيقي.
في النهاية، لا يمكن إنكار حضور التكنولوجيا في حياتنا، لكن علينا إعادة النظر في دورها خلال السنوات الأولى من عمر الطفل. إن الطفولة تحتاج إلى وجه بشري، لا إلى شاشة مضيئة.
النمو السليم يبدأ من اللحظات الصغيرة: نظرة، ابتسامة، صوت حي. والشاشات، رغم كل ما تقدمه، لا تستطيع أن تمنح الطفل دفء الحضور، ولا غنى له عنه.