الخشبة لا تسقط: مهرجانات لبنان كوسائل للبقاء

الخشبة لا تسقط: مهرجانات لبنان كوسائل للبقاء

رشا دبيسي

 

 

 

 في صيف لبنان، يتبدى اتجاه ثقافي غير مسبوق: أكثر من 25 مهرجاناً تجمع بين البُعد الفني والاقتصادي، وتنتشر في فضاءات طبيعية وتاريخية. من أعياد بيروت إلى مهرجان بكرازي، مروراً بـ مهرجانات الأرز، بعلبك، أهدنيات، بيت الدين، والعبادية، يقترح الصيف اللبناني تحوّلاً في النظرة للثقافة، من ترفٍ إلى بنية، ومن عرضٍ إلى إعادة تنشيط.

 

 

 

 في مواجهة أزمات اقتصادية خانقة وتحولات عميقة، وتحت هدير طائرات العدو المسيّرة فوق أغلب المناطق، تشهد البلاد إرادة تدعو إلى تجاوز الأنقاض بثقافة تُبنى وتُدار من الداخل. هذه المهرجانات تعمل كمحرّك فعلي للاقتصاد الثقافي، وتدعم الفنانين والموسيقيين والعاملين خلف الكواليس، كما تفعّل شبكة اقتصادية واجتماعية كثيراً ما تُهمل في المؤشرات الاقتصادية التقليدية. إثر هذه الفعاليات، نرى كيف تتحول المساحة إلى حيزٍ للحياة، وتتداخل الثقافة بالمكان لتعيد تعريفه.

 من خلال عملي في سياسات الاقتصاد الإبداعي وتنظيم الفعاليات الثقافية، أرى هذه المهرجانات كنسيج بنيويّ يعيد توزيع القيمة الثقافية والاقتصادية في البلاد. في ظل مركزية ضعيفة ومؤسسات رسمية مترنحة، تبادر المهرجانات إلى ابتكار مسارات بديلة لإعادة تدوير الموارد وربط الإنتاج الثقافي بمكانه العضويّ.

 إنها لحظة يُعاد فيها النظر في العلاقة بين الاحتراف والتجريب، حيث تلتقي الأسماء الكبرى مع تجارب شبابية جديدة، مما يمنح فرصاً حقيقية للوصول إلى الجمهور والمساحة، كما يُعاد رسم الجغرافيا الثقافية بين المدن الكبرى والقرى السياحية، فتغدو الفعالية الثقافية أداة للتوزيع الرمزي والمادي معاً.

تؤدي هذه المهرجانات، من منظور الاقتصاد الإبداعي، أدواراً متعددة في دورة القيمة:

– تحرك سلاسل التوريد الصغيرة: من الإضاءة والتقنيات، إلى النقل المحلي، والتصميم، والضيافة.

–  تخلق فرص عمل موقتة، لكنها متكرّرة، تُبقي شرائح واسعة من المستقلين على اتصال مستمر بالسوق.

–  تعزّز منطق الاستثمار في التجربة، وليس فقط في المنتج، وهو من ركائز الاقتصاد الثقافي المعاصر.

 أما من حيث البنية التنظيمية، فهي تتشكل -في أغلب الأحيان- من بلديات، لجان مستقلّة، أو مؤسسات عائلية، مما يعكس نمطاً من اللامركزية الإنتاجية، حيث يُنتج المحتوى محلياً، ويلقى صداه على نطاق إقليمي ودولي. المهرجان هنا ليس مجرّد حدث فحسب، إنما جزء من استراتيجية للاحتفاظ بالمواهب بوجه موجات الهجرة المستمرة.

هذا الصيف يُقاس بما تعنيه هذه المهرجانات من إعادة بناء للثقة، وتأكيد على روح المبادرة، في وقت تنهار فيه خطط الدولة وتتراجع الآمال. ما يجري هو أشبه بشبكة ثقافية بديلة، تُبنى من الأسفل، وتُدار بخبرة ميدانية، لتلعب دوراً في رسم سياسات حياة، واعتراف، وانتماء.

أخيراً، في لبنان، لا تُقام الثقافة رغم كل شيء، بل بسبب كل شيء. لأنها الوحيدة القادرة على إعطاء الناس سبباً للوقوف، للغناء، أو للعودة إلى المساحات التي تعّد بوصلة هذا البلد.