زياد الرحباني | صحيفة النهار

زياد الرحباني | صحيفة النهار

*وليد حوراني

 

 

في أحد الأيّام، خلال إحدى رحلاتي إلى لبنان في السّبعينيّات من القرن الماضي، تسنّى لي أن أستمعَ إلى أعمالِ زياد الرّحباني على الرّاديو. وبينما كنتُ في بيروت، أُجريَتْ لي مقابلةٌ مع أَحَدِ المراسلين، ولم أستطعِ الانتظارَ للتّعبيرِ عن رأيي، فقلتُ له: “زياد الرّحباني عبقريٌّ لبنانيٌّ أصيلٌ”. كان زياد في ذلك الوقتِ مُجَرَّدَ مراهقٍ، بينما كنتُ في منتصفِ العشرينيّاتِ من عمري. وحين قرأَ زياد ذلك في الصّحافةِ، أصرَّ على دعوتي لتناولِ الغداءِ، فقبلتُ الدّعوةَ بكلِّ سرورٍ، وكان ذلكَ اللّقاءُ بدايةَ صداقتِنا. 

لم أنسَ أبدًا، قبلَ سنواتٍ من ذلكَ، أثناءَ زيارةٍ قمتُ بها لوالِدَيّ زياد في يومٍ من أيّامِ الصّيفِ في قريةِ المحيدثة قرب بكفيّا، كيف قالَ والدُهُ عاصي مازحًا: “تعا شوف هالدّيّوث شو كاتب: رقصة الحشّاشين”. كانت تلكَ قطعةً موسيقيّةً على البيانو ممتعةً للغاية. وكان زياد آنذاك في التّاسعةِ من عمره عندما أَلَّفَها!

لحسنِ حظّي، كان مقرُّ زياد الرّحباني في منطقةِ رأسِ بيروت الّتي أعرفُها جيدًا. في كلِّ رحلةٍ إلى لبنان، كان زياد يرحّبُ بزياراتي إلى شقّتِهِ وإلى الأستوديو الّذي سمّاه: “نوتا”. كنتُ أحسدهُ على مهاراتِهِ الارتجاليّةِ في الجاز على البيانو وأُعجَبُ بمؤلّفاتِهِ الموسيقيّةِ البارعةِ. أحيانًا كان يعطيني أشرطةً لأعمالِهِ الحديثةِ.

فيروز تحضر وداع زياد الرّحباني (نبيل اسماعيل).

 

في إحدى المناسباتِ، كنتُ في أستوديو زياد أعزفُ على البيانو بشكلٍ عشوائيٍّ عندما دخلَ فجأةً عازفُ إيقاعِ جاز أميركيٌّ شابٌّ، وبدأ يرافقني على الطّبلِ. أمّا زياد، “ذلك الدّيوث”، فكان يسجّلُ عزْفَنا سرًّا. وحين عزَفْنا اللّحنَ الأخيرَ، صرخ بلهجتهِ العامّيّةِ المميّزةِ: “عْطُونا وِحْدِة تانَية”! لم تتركْ كلماتُهُ المحفّزةُ الّتي سُمِعَتْ على الشّريط لي خيارًا. فعزفتُ واحدةً أخرى مع عازفِ الطّبلِ المرْتَجِلِ بينما ﭐستمرَّ زياد في التّسجيلِ. تلك الأيّامُ كانت أيّامَ “الدّيناصورات” لأجهزةِ الكاسيت. وها أنذا أحتفِظُ بذلك الشّريطِ كبؤبؤِ العينِ…

أثناءَ رحلةٍ أخرى إلى بيروت، عرضَ عليَّ زياد لحنًا تقليديًّا لباخ Bach كان قد أَلَّفَهُ. كتبَ نوتاتهِ وأعطاني إيّاه قائلًا: “خُذْ هذا اللّحنَ المُسمّى: «إلى باخ» وﭐنظُرْ ما يمكنُ أن تفعلَ بهِ”.

حالَتْ جولاتي الموسيقيّةُ دون بذلِ الجهدِ المطلوبِ. وحين تسنّى لي ذلكَ، تناولتُ اللّحنَ بشَغَفٍ، وكتبتُ تأليفًا موسيقيًّا للبيانو مع مقدّمةٍ تشبهُ الأرغنَّ، ثم سكبتُ قلبي في ﭐبتكارٍ موسيقيٍّ طويلٍ قبلَ أن أضيفَ لمسةَ جازٍ بأسلوبِ “بوغي ووجي” boogie woogie. وفي زيارةٍ لاحقةٍ إلى لبنان، قدّمتُ العملَ لأوّلِ مرّةٍ في الجامعة الأميركيّةِ في بيروت. ولكن للأسف، لم يكن زياد موجودًا في لبنان وتاليًا لم يسمعْهُ. فسّجلتُهُ في ما بعدٍ على قرصٍ مُدمَج، لكنّني فقدْتُ الاتّصالَ بذلكَ “الدّيّوث” الّذي يعيشُ حياةَ ﭐبنِ بطّوطة.

وقد تشرّفتُ في أحَدِ الأيّامِ بمرافقةِ ريما الرّحباني أختِ زياد، إلى منزلِ والدتِها فيروز. فعزفْتُ لهما قطعتي الموسيقيّةَ على البيانو بعنوان: “إلى باخ وما بعده”، وبعنوان فرعيٍّ: “كورال وﭐبتكارٌ على لحنٍ لزياد الرّحباني”. على الأقلّ سمعَتْ فيروز اللّحنَ. لكنّني لم أعرفْ ألبتَّةَ ما إذا كان زياد قد سمعَهُ، وهذا ما يؤلمني…

السّيّدة فيروز العزيزة،
بقلبٍ دامٍ، أرسل إليكم وإلى العائلة الكريمة أحرّ التّعازي والمواساة من شواطئ الولايات المتّحدة الأميركيّة البعيدة بمناسبة انتقال ابنكم زياد الّذي كان كنزًا للبنان وللعالم العربيّ. سأفتقده دائمًا.
رحل زياد ولكنّه باقٍ بإرثه وعبقريّته…