زياد الرحباني… يا دموع الأزهار وأوقات العصافير

زياد الرحباني… يا دموع الأزهار وأوقات العصافير

ها هو زياد يرحل بلا استئذان. تعب من الكلام الذي لا يُصغي إليه أحد، من التنبيه الذي لا يوقظ، من موسيقى لم تعد تغيّر، ومن ضحكنا الذي صار يُخفي بؤسنا أكثر مما يكشفه.

 

ترك الكرسي فارغاً في المسرح، والمقهى بلا ظلّه، والحمراء بلا عينه، التي كانت ترصد الناس وهم يشيخون من دون أحلام.

 

رحل زياد إلى حيث لا يُطلب منه أن يبرّر حزنه، أو يشرح نكتته، أو يخفّف من حدّة مرآته.

 

انسحب من هذا البلد المُتعب كما ينسحب الممثل من مسرحية أفسدها المنتجون والجمهور معاً.

 

لم يكن زياد بحاجة إلى ضوء خافت أو تصفيق مجامل، بل إلى صمت عميق يليق به، هو الذي كتبنا جميعاً من دون أن يمسك قلماً.

يرحل زياد اليوم عن الحمراء التي أحبّها كما لم يحبّ أحداً، وعاشها مقهى بمقهى، ومسرحاً بمسرح.

الحمراء التي مشى في شوارعها لا ليستلهم، بل ليفهم، ليحزن، ليموت همّاً مما رآه في عيون أهلها من تعبٍ مقيم.

 

 

زياد الرحباني (إنترنت)

 

كانت حياته نصّاً مفتوحاً على احتمالات الضحك والخذلان، فلم يكن موسيقيّاً فقط، ولا كاتباً مسرحياً ساخراً فحسب.

 

كان مثقفاً عضوياً كما أراد غرامشي: لا يطلّ من فوق، بل يغرس في لحم الناس، في يأسهم، في نكتتهم الساخرة، في خبزهم اليابس وكهربائهم المقطوعة.

في بلد تغيّر فيه كل شيء، الناس، الأحزاب، المبادئ، حتى الوجوه، ظل كما هو: يقول “لا” بصوتٍ لا يهاب، لا يجامل، لا يساوم.

لم يكن “واقعيّاً” كما يطلب الزمن، بل كان وفيّاً لما صدّقه.

كتب عن الطبقية بلكنة الناس، فضح الطائفية بجملة مسرحية، سخر من الإعلام بنكتة قاتلة. ودفع ثمن ذلك من جمهوره، ومن راحته، ومن صحته أحياناً.

 

لكنّه صمد، لأن الفنّ بالنسبة له لم يكن تسلية، بل فضحاً راقياً للرداءة، مرآةً متشققة لهذا الوطن الذي لم ينجح في قتل الحلم، لكنه نجح في إرهاقه.

في مسرحه، كانت بيروت بطلة لا تضع الماكياج: بكل تناقضاتها، خبزها، قنابلها، حبّها المبتور، وناسها الواقفين على أبواب المصارف.

 

وفي موسيقاه، اختلط الجاز بالعتابا، والشجن الشرقي بالمزاج الاشتراكي، فصارت أغانيه خرائط زمن ضائع. “أنا مش كافر”، “عودك رنان”، “بما إنّو”، “شو هالأيام”… لم تكن فقط أغنيات، بل كُتب صغيرة عن الحنين والخوف والانتظار.

وإن كان المسرح بيته، فإن زكريا كان مرآته. زكريا… ذاك الذي يشبهنا، لا يحلم ولا يحتجّ، بل يضحك لأن الغضب ترف لا يملكه. جملة واحدة منه كانت كافية لتقلب المسرح رأساً على عقب. تماماً كما كان زياد يفعل، من دون أن يرفع صوته.
لم يصنع أبطالاً، ولا آمن بالنهايات السعيدة.

 

 

كتبنا زياد نحن… حين نسهر على البلاط، نراقب الأخبار، نكذّب السياسة، ونضحك رغم كل شيء، هو الذي قال: “صرتُ أخاف أن أطيل النوم، كي لا يذهب الجميع وأظلّ وحدي”. ذهب زياد… وتركنا نحن وحدنا تماماً.

في تأبينه، يكفي أن ننظر إلى بعضنا كما قال، “علّ الوجوه تتحادث”، أن نصمت قليلًا، أن نسمع نقر البيانو في الخلفية، ونسترجع الضحكة التي لم تكن يوماً خفيفة.

يا زياد، قلت إنك تأمل في أن تكون ساعة الوداع ساعة لا تكون… لكنها صارت.
ونحن من بقي نحمل الحكايات التي دوّنتها عن هذا الوطن المتعب، عن الأمهات اللواتي يضحكن بصوت منخفض، عن الآباء الذين ينتظرون الكهرباء كي يشربوا القهوة، عن البسطاء الذين لا ينتظرون شيئاً… إلا أن يفهمهم أحد.

وداعاً يا زياد، يا دمع الزهر إذا بكى الوطن، ومواسم العصافير حين كانت تحلم في سماء الحمراء.

نم هادئاً تحت شجرة سمعتك تكتب، فأزهرت حزناً.

أنت لم تكن بخير، ونحن لم نكن كذلك، لكن في وجودك… كنا أقل وحدة.