“الفن لا يحتاج إلى ترخيص”… زياد كما هو

“الإلهام هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يعرفه الإنسان”. بهذه الجملة غير المتوقعة، وفي آخر مقابلة مسجّلة له، عبّر زياد الرحباني عن رؤيته للإبداع، بأسلوبه الذي يجمع بين التهكم والجدية.
الموسيقى برأيه “لا تأتي على الطاولة، بل تقتحم العقل من دون إذن، في لحظة لا يمكن التحكم بها”. والإبداع بنظره ليس قراراً، بل تجربة خارجة عن المنطق، كأنما تهبط عليه من سماء لا يملك مفتاحها. هكذا بدا زياد، كما عرفه الجمهور دائمًا: العبقري المتمرّد، ابن العائلة الموسيقية العريقة، الذي شقّ طريقه بأسلوب فكري وثقافي متفرّد، والمشاكس المحبوب الذي استطاع أن يحوّل الألم اللبناني اليومي إلى موسيقى ومسرح ينبضان بسخرية الواقع ومرارة الوعي، تاركاً بصمته كصوت لا يشبه سواه.
لكن رغم الطابع العفوي، لم تكن خلفية زياد عادية. فقد نشأ في منزل يشكّل فيه الإبداع اليومي خبز العائلة. في مقابلة نادرة أجراها الناقد نزار مروة معه في أواخر التسعينات، تحدث زياد عما كان والده يعلّمه إياه من خلال “الأحجية الموسيقية”، فيطرح عليه سؤالاً لحنيًا أو يطلب منه تخيّل نهاية لقطعة موسيقية. هذا الأسلوب التفاعلي زرع في ذهنه حبّ التجريب والاستقلالية في الرأي الفني.
زياد الرحباني. (أ ف ب)
ولعلّ التجربة الأكثر تأثيراً في تشكيل شخصيته الفنية كانت معايشته للحرب اللبنانية، والتفاوت الطبقي، والانقسام السياسي. مسرحياته الأولى، كـ”نزل السرور” و”بِالنسبة لبكرا شو؟”، لم تكن مجرّد عروض ترفيهية، بل مرايا ساخرة للمجتمع اللبناني، كتبها بعيون المواطن العادي، لا النخبوي.
في أكثر من مناسبة، أشار زياد إلى أن ما يسمّيه الناس “فنًا ملتزماً” هو في الحقيقة فن نابع من المعاناة اليومية، من المقهى، من السائق، من الحارة، ومن خيبات الناس. وهذا ما جعله يكتب بصدق، ويعزف بانفعال، ويضحك بمرارة.
هكذا بقي زياد الرحباني، حتى لحظاته الأخيرة، وفياً لذلك التوازن العجيب بين العفوية والوعي، بين العبقرية والواقع، بين الرؤية الحادة والوجع الإنساني. إلهامه لم يكن سحرياً، بل كان مرآة لمجتمع يبحث عن صوته وسط الصمت هذا هو زياد الذي اختصر لبنان بجملة وعرى السياسة بنكتة وغنى للحب من خلف قناع الحزن.