آخر فنجان قهوة في “مقهى نخلة التنين”

آخر فنجان قهوة في “مقهى نخلة التنين”

المحامي ربيع حنا طنوس

 

 

 

في زاويةٍ من ذاكرة لا تهدأ، وعلى طاولةٍ خشبية غطّاها الغبار، وُضعت آخر قهوةٍ في “قهوة نخلة التنين”… ولم يكن أحد يعرف انها الأخيرة. هناك حيث الكلمات كانت ترتشف مع رائحة البن، وحيث الضحك الموجوع كان طريق الناس في مقاومة السقوط، غابت قهوة زياد وغاب معها طيفه الذي يُشعل الجدل في رأس الوطن.

 

 

 

مات زياد، ليس كما يموت الآخرون، بل كما يغيب حارس حلم طويل. غاب من وحّد الناس على خشبةٍ، وأعاد تشكيل خرائط الوعي في مقهى. لم يكن نجماً عابراً بل كان حجر الرحى في معركة الثقافة، وكان الصوت الذي جمع التياسر والتيامن في نكتةٍ واحدة، في قهقهةٍ واحدة وفي وجع.
من “سهرية” تلك النشأة الليلية الحائرة إلى “بالنسبة لبكرا شو؟” حيث يختنق الوطن بأسئلته، زياد لم يكن يكتب بل كان ينقّب في أرواح الناس، يستخرج منها حقيقةً لا تليق بالشاشات  لكنها تليق بنا نحن، نحن الشعب الذي يُضحكه انهياره. في” فيلم أميركي طويل ” لم تكن الكاميرا تلاحق الشخصيات بقدر ما كانت تفضح الواقع. اما “نزل السرور” فالمأساة لم  تحتاج إلى مأساة إضافية: كان يكفي أن تنطفئ الكهرباء لتبدأ الرواية. 
وفي “شي فاشل” حيث القهوة ليست مشروباً بل أرض معركةٍ، دخل زياد التاريخ من باب النكتة الجدية. هناك دار الحدث في مقهى ودار البلد فوق الطاولة، لم تكن القهوة زينة للمشهد بل كانت المشهد، وكانت الفكرة، وكانت الثورة الناعمة التي يُخاض بها الصراع الثقافي.
زياد كان جامعاً وموّحداً. وحده صاغ حواراً حقيقياً بين المتناقضات، جعل الرفيق والشيخ يجلسان على الكرسي ذاته، في المسرح ذاته، يتلقيان الصفعة ذاتها. لم يكن يضحك على الناس، بل كان يُضحك الناس نيابة عنهم وبجرأتهم التي لم يملكوها. جمع في نصوصه الماركسية، الفقر، العائلة، السياسة، الوطن، المرأة، الحب، والله. فجعل من مسرحياته حكمةً على كل لسان يتداولها العابرون من دون ان يعرفوا انها مرآة وجوههم. 
من “بالنسبة لبكرا شو؟” حيث المواطن محاصر بالسؤال إلى “عودة الأسير” حيث لا عودة فعلية لأحد، الى “عياش” حين يُطلب المستحيل من الغائب، زياد حملنا في ذاكرة من مسرحٍ، وجعلنا نشعر أننا نعيش في مشهدٍ طويل لا تنتهي كآبته إلا بنكتةٍ تُنقذ ماء الوجه.
اليوم في آخر قهوة “في قهوة نخلة التنين” لم يبق على الطاولة سوى صمت آخر رشفة في فنجانه، لم تكن إلا سطراً ناقصاً في مشهدٍ لم يكتمل. من سيكتب الان الحوار… “الكهرباء… الصنايع”… من سيهاتف “عياش”؟ من سيصرخ في منتصف المسرح “مش رح ننتخب، مش لأنو معارضة، لأنو ما بدنا ننتخب؟”.
الفراغ الذي تركه زياد ليس فراغاً فنياً فحسب، بل فكري جماعي، فراغ كالذي يحل في الأمكنة حين تغادرها الأرواح  التي كانت تعطيها معناها.
 ربما كانت القهوة الأخيرة إشارةً لا الى غيابه بل لانطفاء المساحة التي كانت تتحمل هذا القدر من الصدق. قهوة زياد لم تكن مشروباً، كانت موقفاً. كانت خشبة مسرح على هـيئة فنجان، وكانت البلاد كلّها تدور حول طاولته تنصت، وتسخر وتبكي. 
وها نحن اليوم، نجلس في صمتٍ يُشبه موسيقاه، ونقول كما قال هو ذات مرة: “إسمع يا رضا…”.  مات اللي كان يضحّكنا ونحنا عم نبكي.