الواقعية في أعمال زياد الرحباني من منظور تمرد ‘ثور ستيفانسون’

الواقعية في أعمال زياد الرحباني من منظور تمرد ‘ثور ستيفانسون’

هل للشعر الحرّ فلسفة؟ وما هي هذه الفلسفة التي تكمن وراء حركة هذا الشعر؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فما هيّة هذه الفلسفة التي كمنت وراء ومضات ديوان “تمرّدات” للإيسلنديّ “ثور ستيفانسون” الذي صدر ضمن منشورات “مؤسّسة ناجي نعمان للثقافة بالمجّان”؟.

لقد كان وراء هذا الديوان، فلسفة مندفعة باندفاع صاخب نحو الاستغراق في عبثيّة الوجود ولا جدواه، كيف لا وقد أهدى هذا الديوان إلى “ألبير كامو”! وقد تغنّى بقضايا الحياة بطابع الواقع والحلم، واليأس والتفاؤل، والحياة والموت ورغبة الانتحار، والثورة والدولة، ومفهوم الحرّيّة وعلاقتها بالإجرام، والهوّة السحيقة بين العبد والسيّد، ومفهوم المعبود وخضوع العابد، والسلطة والعنف، والتمرّد على التقاليد، والحقيقة والكذب…

لقد كانت الثورة من أهمّ شخصيّات الديوان، فقد واكب ستيفانسون حركة المجتمع بثورة شاملة في الفكر والسياسة، وكانت ومضات الديوان إيقاعاً لهذه الثورة، وتفجيراً لرموزها الحضاريّة والإنسانيّة، واندفاعها الصارخ العنيف للتحقّق والاستمرار، من دون أن يهمل الواقع، من خلال معاناة البروليتاريا، فالذي باح به عن الثورة في الصفحة 48: “الثورة حلم بعيد/ نتركه في الاحتياط/ ونعود إليه/ عندما نعطي تمرّداتنا/ أسماء”، يحاكي المشهد الذي تمّ خلاله تملّق الثائر القائد في مسرحيّة نزل السرور، للفنّان الكبير زياد الرحباني الذي رحل مؤخّراً عن بروليتاريا الوطن الذين أحبّه وناضل من أجلها؛ ويعود مشهد من هذه المسرحيّة يمثل أمامنا: “سيدنا إذا تجوّزت الدوموزيل سوسن، بتكون حصلت على غلّة الثورة من دون ثورة، بالثورة الغلّة بيتقاسموها الثوّار، هون أنت وحدك الغلّة كلها إلك… على القليلة بصير يجتمع مجلس الثورة عندكن بالبيت…”. والمعروف أنّه لا يوجد توأمة بين لبنان وإيسلندا، لكن التوأمة الفكرية موجودة بين جميع المفكرين على مساحة الكوكب الأزرق.

الخيبة التي حصلت في لبنان بعد ثورة 17 تشرين، جسّدها ستيفانسون في قصيدة وردت في الصفحة 81 من الديوان: “إذ لم يتجسّد/ الإيمان/ بالمدينة الفاضلة/ بعد الثورة،/ فإنّ خيبة املنا/ ستصبح مرعبة.” فالملاحظ أنّ جميع قصائد الشاعر تحكي واقع لبنان، وقد كتب في بلد بعيد كلّ البعد عنه، جغرافيّاً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وكأنّه يعيش في وطننا، فقصائده عكست طبيعة النفس الّلبنانيّة بين هدأة التأمّل وغضب الثوّار وسكون التقوقع بعد الثورة. وكان بوحه يلفظ أنفاس بقاء الوطن متخطياً الاحتضارات الوطنيّة الموسميّة. 

يقول لورد توماس: “لم يكتشف الطغاة بعد سلاسل تكبّل العقول”، فمتى يصبح هدف الثورة سائغ شراب في عطش المكابدة؟ وكيف تصبح دوافع المتمرّدين استمراراً لطغاة الأرض والمستذئبين من ولاة العصر وجبابرة الأنذال؟ فهل حلّت لعنة الفكر علينا؟ وهل لأنّ الكتابة سبب من أسباب خوف الولاة الظالمين، لذلك دفعوا ثمن الضمائر أضعاف ما قبضوا من ثمن الوطن؟! نقول لستيفانسن الحلم بالحرّيّة دافع لقتال عنيف، وإنْ لم نحلم بها ونكابد لتحقيقها، نبقَ في أمرحة العبوديّة: “أمّا وقد خسرنا/ نعمة الله/ وغدا تمرّدنا/ ذريعة/ لطغاة جدد/ فبأيّ دافعٍ/ نستطيع القتال بعد؟” (صفحة 97).

كم أنّ إيسلندا وجنوب أفريقيا بعيدتان عن لبنان؟ وكم أن فكر ستيفانسون يطابق مراحل عذاب لبنان إذا ما عملنا إسقاطات على تلك المراحل، وكأنّي به يعني الدكتور سمير جعجع قبل تسليم القوّات الّلبنانيّة سلاحها، وخلال سجنه بتهمة عضّوميّة لجرم لم يرتكبه، وخروجه من السجن، وتحوّل حزبه إلى حزب سياسيّ وطني راقٍ على مستوى المسؤوليّة، فالحزب الذي تضاعف عدد مقاعده في المجلس النيابي أضعافاً مضاعفة خلال دورتين انتخابيتين، هو الحاصل على ثقة الشعب من محازبين وغيرهم، وهذه الثقة لم تأت من عدم، بل من صراحة رئيس الحزب ونزاهة وزرائه: “بعد عقود في السجن/ نتوقّع/ خروج فرد منتقمٍ/ أو متهالك./ وخرج مَنْدِلاَّ / من سجنه/ المغفرة على ثغره/ وفي قلبه.” صفحة 35). وقد خرج الحكيم وخلاص لبنان والحفاظ على العيش المشترك نصب عينيه.

من المعروف أنّ إيسلندا هي البلد الأكثر أماناً في العالم، كما أنّها بلد البراكين والسماء الملوّنة والطبيعة الخلّابة. فما هو السبب الذي جعل ستيفانسون يتمرّد بوحاً؟ المعروف عنه أنّه من المثقفين الذين يتمتّعون بثقافة عالميّة شاملة، وتؤلمه آلام الإنسانيّة وويلات الحروب، هو الحائز على جائزة ناجي نعمان “جائزة التكريم عن الأعمال الكاملة، 2014” فقد قال عنه الأخير في تقديمه لهذا الديوان: “تمرّدات، هو محاورة مع رواية (الإنسان المتمرّد) لألبير كامو (غاليمار 1951) ومحاولة للسير على خطى الأخير لفهم كيف يمكن تمرّد الإنسان أن يؤدّي إلى تبرير الجرائم وأعمال القتل في الدولة البوليسيّة ومعسكرات الاعتقال باسم الحريّة والمساواة”. 

ترجم المؤلف ديوانه من الإيسلنديّة لغته الأمّ إلى الفرنسيّة، بمعاونة الفرنسيّة نيكول باريير. وقد نقله ناجي نعمان عن الفرنسيّة إلى لغة الضاد، وأصدره بالمجان ضمن منشورات “مؤسّسة ناجي نعمان للثقافة بالمجّان”. 

وبالإمكان قراءته بالمجّان كاملاً بالنقر على الرابط أدناه: 
https://drive.google.com/file/d/1xipfuQrwV88Lf_ftOIwdHEELYMqeQQzE/view?usp=drivesdk