فيروز… من سيوفر لك التعزية في فقدان زياد؟ | النهار

فيروز… من سيوفر لك التعزية في فقدان زياد؟ | النهار

ريمي الحويك 

 

 

“الموسيقيّي دقّوا وفَلّوا
والعالم صاروا يقِلّوا
ودايماً بالآخر… في آخر، 
في وقت فراقْ…
بلا موسيقتنا الليلة حزينة،
بلا غنّية… ليلي بيطول”…

 

 

 

 

 

رحل زياد الرحباني بلا ولا شي. هو القائل “وبحمِل صوتي وبمشي عطول”، ترك صوته، سخريته الذكيّة، صموده، غضبه، رقّته، وقسوته… وغادر أرضنا الفانية.
اليوم فقط، شعرنا بكمّ الصدق في أغانيه، اليوم فقط، كل كلماته تجلّت، سكنت فينا كما تسكن الصلاة في قلب العاجزين.
كم مرّ في خاطري حلم لقائه، في صباح بيروتيّ هادئ،
في مقهى على الرصيف، 
كنتُ أتمنّى أن يمرّ، 
يطلب قهوته من دون سكر، 
وأنظر إليه كأنّي أعرفه منذ وُلدت… ولم يحصل ذلك يوماً.
حين قرأت الخبر، لم أفكّر إلا بها، نُهاد حداد.
ليتني أستطيع معانقتها، أن أقول لها كما قالت لنا، “بتضلّك طفل صغير… كلّ ما تكبر بتصغر…”، أن أخبرها أنّنا صرنا كباراً في الوجع، وأنّ حزنها الليلة هو كأغانيها، يسكن في قلب كلّ العالم.
من يجرؤ أن يقول لك “الله يرحمه” وأنتِ التي أبقيتِ الله في قلوبنا بأغانيك؟
من يربّت على كتف جبل حين يتصدّع؟
كيف نرثي الذي كتب لك الألحان، وفصّلك من موسيقى لبنان ثوباً لا يشبه سواك؟
فمن يعزّيكي؟
نحن؟
نحن الذين لم نحفظ حتى اسم الحانة التي كتب فيها مجده؟
نحن الذين تفرّجنا على صمته وهو ينسحب من الضوء؟
نحن الذين لم نفهمه إلّا حين مات؟
فيروز، لا عزاء يُقال لك،
لأنّ الذي يُعزَّى اليوم، هو نحن.
نحن من سقط عنهم ظله وبقينا وحدنا في شمس الحداد.
فيروز،
أنتِ التي بكتكِ الشام دون أن تموتي،
وبكتكِ القدس وأنتِ واقفة،
كيف لا تبكيكِ بيروت الآن، وأنتِ تفقدين ذاك المجد المتمرّد، الموجع، الغاضب، الذي اسمه زياد؟
غاب زياد كليّاً عن الصورة،
تحوّل فجأة إلى مجرّد وسيلة توصلنا إلى فيروز، إلى الإنسانة، الأم، التي حملت لبنان في صوتها كما حملت زياد في رحمها.
الليلة، نحزن عليها كما نحزن عليه، نخاف عليها كما نخاف على آخر ما تبقّى في هذا الوطن من نور.
موت العبقريّ يهدّ الحال أكثر من موت أي قائد أو رئيس، فالرئيس يرحل ويأتي مَن يخلفه، أما زياد… فمن يخلف زياد؟ 
من يكتب عن قهر المواطن في طابور الخبز؟
من يضع صوت الفقير على خشبة المسرح؟ 
من يسخر من الجوع والخوف والانهيار ولا يفقد كرامته ولا ضميره؟
اليوم، صرنا نموت من الخوف.
خوف على من تبقّى،
خوف على فيروز،
خوف على لبنان الذي يخفّ وزنه كلما رحل واحد من كباره.
لبنان الموسيقى، لبنان الإبداع، لبنان الخيال، ذاك الذي لا يُدار من قصر، بل من صالة مسرح ومن شرفة بيت يطُلّ على الناس.
كان زياد عصبنا الحيّ،
جرأتنا حين نَجبن،
ذكاءنا حين نُغفل،
صوتنا حين نصمت.
كان الولد اللبنانيّ الذي قال ما لا يُقال، وحافظ على أن يكون حرّاً… ولو ثمن الحريّة هو العُزلة والوجع.
في “بالنسبة لبكرا شو” علّمنا أن نضحك ونحن نختنق.
في “كيفك إنت” علّمنا أن لا نعرف كيف نحبّ، لكن نحبّ رغماً عن كل شيء.
في “بما إنّو الوضع هيك” ضحك من ضحك، لكننا بكينا من خلف الضحكة.
وداعاً يا زياد،
غنّيناك ألف مرّة،
وسنغنّيك ألف مرّة بعد…
لكننا اليوم، نغنّيك والدمعة على طرف القلب.
فيروز، لا تبكِ، فدموعك ستقتلنا كلّنا.
زياد رحل،
لكنّه ترك لك ولنا عزاء واحداً.
أنّه كان ابنك.
وكفى.