ماذا سيحدث غدًا؟ | النهار

ماذا سيحدث غدًا؟ | النهار

ميريام السّباعي

 

 

 

سبعٌ وأربعون سنة مرّت على إطلاق زياد الرحباني سؤاله البسيط، العميق: “بالنسبة لبكرا… شو؟” سبعٌ وأربعون سنة، لم تكن كفيلة أن تمنحنا إجابة.
تغيّرت الحكومات، تبدّلت الوجوه، تهدّمت مدن وبُنيت، لكن السؤال بقي كما هو، يُطاردنا كل صباح، يهمس في آذاننا كلما نظرنا نحو الغد. كأن الوطن كلّه عالقٌ في وقفة انتظار، وكأن الغد نفسه تردّد أن يأتي، لأنه لا يملك ما يقدّمه.
 وما من أحدٍ طرح هذا السؤال بصدقٍ وألمٍ مثل زياد الرحباني. زرعه في مسرحيته ندبة في قلب وطن، وسكبه على الخشبة حقيقة عارية، لا تحتاج إلى زينة ولا إلى شرح. ومع كل عامٍ مرّ، كان السؤال يشيخ، ولكن لا يشيخ وحده. رحل زياد عن الضوء، عن المسرح، عن الجدل اليومي، وترك خلفه سؤاله يتيماً، لا جواب يحنو عليه، ولا غد يُنصفه. رحل، من دون أن يسمع إجابة واحدة تُرضي القلب، أو تُطمئن العقل. كأن القدر نفسه اختار أن يبقى “بكرا” مجهولًا.

 

 

 

 

 

لكن، ماذا لو قررنا، عناداً، أن نفرح رغم المجهول وضبابية المستقبل؟ ماذا لو اخترنا الأمل رغم جروح الوطن المنهك؟ قد يبدو القرار بسيطًاً، أن نفرح، أن نتمسك بالنور، لكنه في الحقيقة القرار الأصعب. لأنّ السّؤال ليس هل نريد أن نفرح؟ بل، كيف نفرح؟ كيف نبتسم وسط الركام، ونزرع أملًا في أرضٍ تشكو العطش والخيانة؟ كيف لا نخون وعينا، وفي الوقت نفسه لا نسمح له أن يسحقنا؟ حين سُئل زياد الرحباني، كيف يمكن للإنسان أن يكون سعيداً؟ أجاب بمرارة لا تخلو من الصدق: “لما يكون بلا مخ.”
ليست نكتة، بل تشخيص. كأن الفرح الحقيقي صار يتطلّب غياباً للعقل، أو على الأقل، صمتاً له. كلمات قصيرة لكنها تحمل غضباً ومرارة لا تخطئها العين. ففي زمن يَبتلعه العبث، وتُحتقر فيه العقول، يصبح الانفصال عن التفكير العميق، أو الغفلة الطوعية، أقصر الطرق للهروب من الألم. سعادة زياد ليست احتفالاً فارغاً، بل صرخة تشي بيأس، حيث العقل الذي يُفكّر، يتعب، ويتألم، ولا يجد مفراً سوى أن يغيب قليلاً ليشعر بالراحة. هذه الإجابة ليست مجرد تهكم، بل مرآة لوضع الإنسان اللبناني والعالمي، الذي يُرغم على مواجهة غدٍ مجهول، وأسئلة بلا أجوبة.
وكأنّنا نعيش في فيلم أميركي طويل، لا نهاية له، تتداخل فيه المشاهد بين الدمار والعبث، بين الألم والسخرية، حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقة والخيال، ويصبح الغد مشهداً مجهولاً بلا سيناريو واضح.
فمن خلال هذه المسرحية، سعى زياد الرحباني إلى كشف هشاشة الحياة اليومية وتأثير الحروب على الإنسان والمجتمع، وإبراز الإحباط واليأس العميقين اللذين يعيشهما المواطنون في ظل الانقسامات والدمار، مُستخدماً السخرية والعبث أدوات نقدية تُمكن الجمهور من مواجهة الحقيقة الصعبة من دون هروب أو توهّم. في هذا الفيلم الذي لا ينتهي، لا يملك الإنسان سوى أن يختار بين الاستسلام للوجع أو الهروب إلى لحظات غفلة موقتة، تنقله بعيداً من ضغط العقل والوجدان. هنا، يتجلى الفرح ليس كحالة طبيعية أو نتيجة حتمية، بل كقرار عنيد، اختيار واعٍ للابتسام وسط الركام، للمقاومة عبر بسمة رغم كل الظروف.
وهكذا، يظل سؤال “بالنسبة لبكرا شو؟” مفتوحاً، يدفعنا لنختار كيف نواجه المجهول، إما بأن نغلق عقولنا ونهرب، وإما بأن نفتح قلوبنا للفرح رغم كل شيء، ونصنع من هذا القرار نوراً ينير ظلمة الفيلم الطويل الذي نعيشه.
أُسدل الستار على مسرح حياة زياد، بعد أن عزف لحن الموت الأخير، ذلك اللحن الذي ظلّ ينسجه بين الحروف والمواقف، بالكلمات والموسيقى، طوال عمره الفني. لم تكن حياة زياد مجرّد رحلة فنية، بل مسرحاً مفتوحاً على كل وجع، وساحةً تتصارع فيها الأسئلة واليقين، الضحكة والدمعة، الثورة واليأس. منذ بداياته، كان يطرح السؤال الكبير: “بالنسبة لبكرا شو؟”، ليس بحثًا عن إجابة بقدر ما كان كشفاً لواقع وطنٍ متروك للمجهول. وما كان غده المشرق إلا حلماً يسخر منه الحاضر، فتتوالى النكبات، ويزداد ضياع الإنسان في دوّامة لا تنتهي. فأدرك زياد، كما قال لاحقاً، أن “السعادة… لما تكون بلا مخ”، لا لأنها سعادة حقيقية، بل لأنها مهرب موقّت من التفكير، من الألم، من الوعي المفرط في وطنٍ صار فيه العقل عبئاً لا ميزة. ومع ذلك، لم يستسلم. بل اختار أن يُقاوم بالفرح، بالسخرية، بالمسرح. كان يعلم أن الضحك في وجه الخراب عمل بطولي، وأن الموسيقى التي لحّنها لفيروز، كانت محاولة لإنقاذ ما تبقّى من الحلم. في “رجعت الشتوية” كان يكتب برد الذاكرة، وفي “كيفك إنت؟” كان يفتّش عن الإنسان الذي فقد صوته في ضجيج الحرب.
زياد لم يكن فناناً فحسب، بل حالة. حالة وطن يئنّ، وشعب يتذكّر، ومدينة تمشي فوق الركام وتحلم، رغم كل شيء، بكوب قهوة ساخن، بأغنية ناعمة، بجملة تقول: “بعدنا طيبين… قولوا الله”.