تأثيرات سوريا في قبضة ‘المستعمرين الجدد’!

بعد نصف قرن من ديكتاتورية حافظ الأسد ووريثه بشار، يتعين على سوريا أن تمسك بالحاضر وتقاوم التهديد بخسارة الماضي. فضياعه قد ينتهي بفقدان المستقبل، لأن حياة أي أمة سيرورة، تترابط حلقاتها وتتداخل، لترسم معاً صورتها. لكن حماية هذا الماضي مهمة صعبة لكثرة “المستعمرين الجدد” الذين يتربصون به في لندن وعواصم غربية أخرى.
كانت مخلفات الماضي الثمينة من ضحايا الفساد واللصوصية في عهد الأب والابن. وزادت في الأشهر الثمانية الأخيرة، عمليات نهبها بوتيرة غير مسبوقة. حتى إن ما تم تهريبه بدءاً من 8 كانون الأول/ديسمبر يكاد يعادل الثلث من إجمالي القطع الأثرية التي تم الاتجار بها منذ 2012. وهذا النشاط لا يعود فقط إلى ضعف المؤسسات الرسمية أو انشغالها بهموم أخرى، بل إلى الواقع الاقتصادي الصعب الذي يجعل اللقمة أهم من التحف والتماثيل القديمة التي لا يتوانى كثير من السوريين عن بيعها إن وصلت إليهم.
ومن يشتريها وكيف؟
شبكات التهريب موجودة سلفاً. والاتجار بالنفائس التاريخية ليس جديداً على سوريا. تورطت به أجهزة النظام السابق، وحذا حذوها “داعش” في تدمر حينما سيطرت عليها في 2015.
أما الزبائن، فغالبيتهم من الغربيين ورثة الإمبراطوريات التي اندثرت. الماضي يسوّغ الشعور الكسول بالعظمة ويدغدغ الحنين إلى أيام كانوا فيها قوة ضاربة. لذا ينشد البريطانيون الاستحواذ على كنوزه في محاولة لتعزيز هيمنتهم الثقافية كشعب متفوق بالفطرة، كما يظنون.
في هذا السياق، تبدو قصة “رخاميات بارثينون” لافتة. فهذه تماثيل ومنحوتات جدارية بديعة زيّنت يوماً معبد بارثينون الشهير على جبل أكروبوليس. جيء بها في 1815 إلى المتحف البريطاني. ولم تستطع اليونان التي تطالب بها منذ ثمانينيات القرن الماضي أن تستعيدها، مع أن المتحف عجز عن إثبات حصوله عليها بطرق مشروعة. يبدو أن الطرفين اتفقا أخيراً على صيغة ستتيح لأثينا عرض الرخاميات من فترة إلى أخرى.
لم يجرِ الإعلان عن تفاصيل الصفقة التي لا تزال قيد الدرس. مع ذلك، قامت قيامة 34 مجموعة من الشخصيات التي وقّعت عريضة موجهة لكير ستارمر رئيس الحكومة، مهددين برفع دعوى ضد الحكومة ما لم يوقف المتحف البريطاني على الفور مفاوضاته حول خطط “سرية” لإعادة الرخاميات إلى اليونان!
كان من الغريب أن يشعل هؤلاء “المستعمرون الجدد” الذين تصدرتهم رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، في هذا الوقت شرارة الجدال حول “شرعية” احتفاظ بريطانيا بالآثار الأجنبية ولو جاءت بأساليب يشوبها الغموض أو تنطوي على انتهاك القانون! لم تُعر الحكومة تهديدهم قدراً كبيراً من الاهتمام. فبين يديها ملفات الاقتصاد المتعثر وحرب أوكرانيا والخطر الروسي… إلخ، ولا يمكنها أن تضيع وقتها في تفنيد أحلام إمبريالية بمصادرة حق الشعوب بتاريخها.
مع ذلك، من الخطأ الاستهانة بتراس ورفاقها الشعبويين الذين تدعمهم المؤسسة التقليدية. وللمؤسسة سطوتها التي تحمي المتحف البريطاني من تداعيات المساءلة المتزايدة حول تشبثه بمنحوتات وآثار ثمينة يطالب أصحابها الشرعيون بها.
وإذا رفضت فئة مؤثرة قد تصل إلى السلطة في المستقبل المنظور، بعناد مجرد البحث عن حل لقضية رخاميات دولة أوروبية شريكة لبريطانيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فهل يمكن للتماثيل والجداريات الثمينة السورية ومثيلاتها أن تعود إلى أوطانها؟
دعوة عالم الآثار السوري عمرو العظم لضبط الطلب الغربي على آثار بلاد الشام محقة ومنطقية. لكن يصعب التكهن بقدر كبير من النجاح لجهود الضبط المنشود بوجود “المستعمرين الجدد” وأمثالهم من الراغبين في “اقتناص” المزيد من نفائس الشرق!