مكانة السيدة خولة في بعلبك… أكثر من مجرد موقع ديني

عند المدخل الجنوبي لمدينة الشمس والتاريخ بعلبك، تختبئ زوايا من روحٍ لا تغيب، وحكايات لا تنتهي. على مسافة خطوات من الصخب، ومن خلف أسوار الزمن، يقف مقام السيدة خولة شامخاً، كأنّه قلبٌ نابض بالحزن والسكينة معاً.
في الباحة الهادئة عبق بخور وصوت ترتيل ناعم يشبه همسات الأمهات. لم يكن المكان مجرّد مزار ديني، بل ذاكرة حيّة تسكنها ملامح الزائرين ودموعهم. في عيون بعضهم، رأينا نجوى المكسورين، وفي دعواتهم، رغبة بالشفاء، بالخلاص، وربما بلقاء من رحل.
مقام السيدة خولة (النهار)
يُروى أن خولة، إبنة الإمام الحسين، وصلت إلى بعلبك أسيرةً مع ركب السبايا بعد حادثة كربلاء، باتجاه الشام سنة 61 هـ (680 م).وهناك، تعبت روحها الصغيرة، ونامت إلى الأبد في هذا المكان حيث دفنت سرّاً تحت الليل والدموع. حجارة المقام تحفظ تفاصيل الحكاية بالنسبة إلى الأتباع، والجدران تنزف كل عام من وجعها، ومع ذلك، يجيئون إليها: نساء يبكين أطفالاً، رجال يبحثون عن عزاء، مرضى يطلبون الشفاعة، وفقراء يشكون ضيق الحياة.
إلى جانب الضريح، تنتصب شجرة سرو معمّرة، ويقال في الروايات الشعبية أن الإمام زين العابدين (علي بن الحسين)، زرع هذه الشجرة فوق القبر الصغير لشقيقته، لتكون دلالة إلى وجود الضريح، كما كانت العادة في تلك الحقبة.
ومنذ ذلك الحين، بقيت الشجرة شاهدة على الحزن والرجاء، يلتف حولها الزوار بخشوع، يتلمّسون جذعها، ويأخذون قطعاً صغيرة من أغصانها نذراً وتبركاً، علّها تحمل في خشبها شيئاً من روح قدسية المقام.
كان لافتاً أن المقام لا يعرف طائفة واحدة، ولا لوناً واحداً للحزن أو الرجاء. هنا، الجميع يتساوون أمام الألم والأمل. فالمكان، على رغم تواضعه، يبدو كجسر يربط الأرض بالسماء، وكأن خولة، الطفلة الشهيدة، ما زالت تفتح ذراعيها لكل زائر. واللافت أن المقام لا يشهد فقط زيارات دينية، بل تحوّل إلى مساحة لقاء وتضامن اجتماعي، إذ تشهد ساحاته توزيع مساعدات، وإحياء مناسبات وطنية وروحية.
في لقاء خاص مع مسؤول المقام الحاج حسين نصر الله فتح لـ”النهار”أبواب المكان الذي لا يهدأ نبضه، على رغم سكون الحجارة. يقول: “المقام ليس مجرّد مَعلم ديني، بل هو ذاكرة حية للوجع الحسيني. خولة هي الطفلة التي استشهدت في طريق السبي، ودفنت هنا في بعلبك، والناس يرون فيها عنواناً للبراءة والشهادة والارتباط العاطفي العميق بأهل البيت”.
يوضح أن المقام في الأصل كان عبارة عن قبر صغير متواضع، لكنه حظي باهتمام شعبي متزايد، فتم توسيعه وترميمه مرات عدة، بخاصة اعتباراً من تسعينات القرن الماضي. في عام 1996، وضع حجر الأساس لبناء جديد بطراز العمارة الفارسية، ليأخذ شكله الحالي الذي يتميّز بالزخرفة بالكاشاني والفخار، أسوة بمقامات أهل البيت في العراق وإيران وسوريا، لكن روحه بقيت على حالها.
المقام لا يقتصر على الزوار من المناطق اللبنانية، فبحسب المسؤول “يأتينا زوار من العراق، إيران، سوريا، الخليج، الهند وآسيا بل ومن الجاليات اللبنانية في أوروبا وأميركا، وكلهم يشعرون أن هذا المكان يلمّ شتاتهم الروحي، وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 10% من زوار مدينة بعلبك يزورون مقام السيدة خولة، ما يؤكد أن السياحة الدينية أصبحت الركيزة الأساسية للمنطقة.”