الجوهرة المُخبأة في بعلبك: المسجد الأموي

الجوهرة المُخبأة في بعلبك: المسجد الأموي

بين صروح بعلبك الرومانية الشاهقة، يقف “المسجد الأموي” كشاهد صامت على حقبة إسلامية غنية بالتاريخ، جوهرة معمارية قد لا تحظى بنفس شهرة المعابد الرومانية، لكنها تحمل قيمة تاريخية ومعمارية لا تقدَّر بثمن.

 يعود تأسيس المسجد إلى العصر الأموي، وتحديداً فترة خلافة الوليد بن عبد الملك في عام 96 هـ (714-715 م). يُعتقد أنه بُني على أنقاض كنيسة بيزنطية (كنيسة القديس يوحنا)، كانت بدورها قائمة على موقع المنتدى الروماني، ما يعكس طبقات التاريخ المتراكمة في هذه البقعة الفريدة.

 

المسجد الأموي (النهار)

 

وأنت تجول في ساحاته الفسيحة، تتخيّل أنك ترى المصلين الأوائل وهم يرفعون أياديهم بالدعاء، وأنك تسمع أصداء الخطب التي كانت تملأ المكان.
يبلغ طول المسجد حوالي 60 متراً وعرضه 50 متراً، ويتميّز ببساطة وروعة الطراز المعماري الذي يمزج بين التأثيرات الرومانية والبيزنطية والإسلامية المبكرة. يضم في داخله نحو ثلاثين عموداً، يُعتقد أنها نقلت من المعابد الرومانية القريبة من قلعة بعلبك. تتزين هذه الأعمدة بتيجان “كورنثية” مصنوعة من أحجار الغرانيت والحجر الأصم، وتحمل أقواساً متينة. الجدران لا تزال تحتفظ ببعض الزخارف الإسلامية المبكرة.
 رغم مرور السنين وتأثير العوامل الطبيعية، لا يزال المسجد يحتفظ بجزء كبير من أصالته، خصوصاً في المحراب والمنبر اللذين يرويان حكايات الأئمة والعلماء الذين مروا من هنا، من بينهم الإمام الأوزاعي وصلاح الدين الأيوبي.

 

 

يشبه المسجد الأموي في بعلبك تصميم المسجد الأموي في دمشق، حيث يحتوي على مساحات واسعة تتزين بالأعمدة، بالإضافة إلى مئذنة مربّعة تشبه البرج الحربي. الجدران التي يبلغ ارتفاعها حوالي ثمانية أمتار مزينة بالنقوش والزخارف التي تعود إلى عصر المماليك.

في الجهة الغربية من المسجد تقع المدرسة النورية، وهي من أقدم المعالم الإسلامية التعليمية في المدينة، مخصصة لتعليم الفقه والحديث والتفسير. يعود تاريخ بنائها إلى العهد الأيوبي، وتحديداً سنة 564 هـ/ 1168 م في عهد القائد نور الدين زنكي، الذي عُرف بدعمه للعلم والعلماء.

 

أوضح لـ”النهار” إمام الجامع الشيخ قاسم القبرصلي أن المسجد يُعدّ أحد أبرز المساجد الثلاثة التي شُيّدت في العهد الأموي، إلى جانب الجامع الأموي في دمشق (المسجد الرئيسي) والمسجد الأموي في حلب. “على مر القرون، تعرّض المسجد لعدة كوارث طبيعية، مثل الزلازل والفيضانات، ما أدّى إلى تهدم معالمه الأساسية، خاصة سقفه الذي انهار بالكامل. بقي المسجد من دون سقف لما يقارب 600 سنة، ولم تؤدَّ فيه الصلوات خلال هذه الفترة”.

ولفت إلى “تصميم المنبر الخشبي داخل المسجد بطابع أموي، واستُخدم الخشب القطراني (معروف برائحته المميزة)، من تركيا في السقف، بينما استورد القرميد الذي يغطي السقف من إيطاليا، وذلك بعدما عُثر خلال الترميم على قطعة قرميد قديمة، فتمّت مطابقة التصميم لإعادة إنتاج نسخة مشابهة لها”.

جاءت فكرة الترميم بعد حادثة مهمة في عام 1997، عندما أراد الرئيس فؤاد السنيورة أداء صلاة الجمعة في المسجد، وكان سقفه مغطّى بالقماش فقط. بعد الصلاة، أجرى السنيورة اتصالاً بالرئيس رفيق الحريري، الذي سارع إلى إرسال فريق هندسي من مؤسسة الحريري لبدء أعمال الترميم، التي اكتملت عام 1999.

إن زيارة المسجد الأموي في بعلبك ليست مجرد جولة سياحية، بل هي رحلة روحانية وفكرية. إنها فرصة للتأمّل في تعاقب الحضارات وتأثير الإسلام على المنطقة، ولتقدير الفن المعماري الذي يجسّد روح تلك الحقبة.
إنه مكان يدعوك للهدوء والسكينة، بعيداً عن صخب الحياة اليومية، لتعيش لحظة من التواصل مع الماضي العريق. عندما تغادر المسجد، لن تأخذ معك صوراً فوتوغرافية فقط، بل ذكرى خالدة لمكان يجمع بين عظمة التاريخ وجمال العمارة الإسلامية. 
المسجد الأموي في بعلبك ليس مجرّد بناء، بل هو صفحة حيّة من كتاب التاريخ، تنتظر من يقرأها ويكتشف أسرارها.