عين المريسة… حيث يلتقي البحر بالمحراب

على شاطئ بيروت، حيث ترتمي الأمواج في حضن الصخور القديمة، يقف مسجد عين المريسة في صمتٍ يشبه صلاةً لا تنتهي. هنا، يتعانق الموج مع الدعاء وصخب المدينة، ويُخلَق من ملح البحر وتراب الأرض ويوميّات الناس مكانٌ يختزن ذاكرتهم وسكينة أرواحهم.
مسجد عين المريسة (النهار)
لم يكن هذا المسجد يوماً مجرّد بناءٍ من حجر رملي شُيّد عام 1887، بل هو حكاية حيٍّ بكامله: حكاية البحّارة والصيّادين والأطفال الذين كانوا يهرعون إلى ساحته الصغيرة، وحكاية شيوخٍ نذروا أصواتهم للأذان وخطبهم للإيمان.
يجول الشيخ الدكتور أسامة الحداد، إمام المسجد والمفتش العام في دار الفتوى، ويخبرنا بشغف ومسؤولية عن تاريخ المسجد وكل الأعمال التي تحققت على امتداد ذاك التاريخ.
قصص الشيخ الحداد لا تبدو وصفاً عابراً، بل حقيقة يلمسها كل من يخطو عتبة الباب. ذلك الباب الذي أخبرنا الشيخ الحداد فور وصولنا إلى المدخل أنه “لم يكن في الأصل باباً، بل فتحة في الحائط صنعها البنّاؤون القدامى حتى يتمكّن البحارة من إلقاء نظرة إلى الداخل قبل أن يبحروا”.
“آل الهبري قدّموا الأرض لبناء المسجد، فيما شاد آل بيهم البناء، وصُمّم وفق الطابع العثماني، ودليله المنبر الخشبي الذي يشبه منبر النبي في المدينة المنوّرة”، يؤكد إمام المسجد.
وفي روايته: “تحت هذا البناء تخفي الأرض سرّاً آخر: عين مياهٍ صافية وثلاث عيون أخرى كانت سبب تسمية الحيّ بـ”عين المريسة”. ولعل هذا اللقاء بين الماء والمحراب، والبحر والمئذنة، هو ما منح المكان تلك الهالة الروحانية التي لا تنطفئ”.
في عام 1912، ومن هذا المسجد الهادئ، أخبرنا أيضاً أنه “وُلد أول كشاف مسلم في لبنان، ليغدو الجامع نقطة انطلاقٍ لحياةٍ عامرةٍ بالتربية والخدمة”. و”من فوق هذا المنبر خطب كبار علماء الطائفة: المفتي الشيخ محمد علايا، والشهيد المفتي الشيخ حسن خالد، وصولاً إلى المفتي الحالي الشيخ عبد اللطيف دريان”.
ومثلما كان للمسجد دوره الروحي، يقول الشيخ الحداد إنه “كان له قلبٌ كبير في أيام الحرب اللبنانية، من هنا انطلقت الإسعافات وخدمة المحتاجين، وامتدّ الأذان ليصبح نداءً للرحمة لا للعبادة فحسب”.
وعلى الباب الخلفي، “تستقر قنطرة تاريخية نُقلت خصيصاً من مسجد الأمير منذر، أحد أقدم مساجد بيروت”، يؤكد الشيخ الحداد، كأنما حملت معها عبق التاريخ لتزيد المكان أصالة.
واليوم، لا يقصده المصلّون فقط، بل يلفت السائحين المارّين على الرصيف البحري الذين يستوقفهم جماله الهادئ فيدخلون إليه باحترام، يلتقطون الصور، ويسألون عن حكايته العتيقة، وكأنهم يبحثون عن سلامٍ يليق بزمنٍ أقلّ ضجيجاً.
في المساء، حين تخبو ألوان الغروب، يظلّ مسجد عين المريسة واقفاً كحارسٍ أبيضَ على حافة الزرقة، يروي للأجيال قصة الإيمان الذي لا يتراجع أمام العواصف ولا يشيخ مع مرور الزمن.
ربما لهذا يعود الناس إليه، عابرين زحمة المدينة وصخب البحر، كي يجدوا في هذا الركن المتواضع سلاماً يشبه البحر حين ينام، ويشبه القلب حين يطمئن.