دير السيدة حوقا في وادي قاديشا: حينما انتحب الخائن وبنى التوبة

دير السيدة حوقا في وادي قاديشا: حينما انتحب الخائن وبنى التوبة

في قلب وادي القديسين، في شمال لبنان، على صخرةٍ معلّقة بين السماء والأرض، يقف دير ومحبسة سيّدة حوقا شاهداً أبدياً على قصّة تضرب جذورها في تربة هذا الوطن وتاريخه.

 

دير سيدة حوقا في وادي قاديشا (النهار)

 

وُلد هذا الدير من ندمٍ عاصف جرّه ابن الصبحا. ففي إحدى ليالي القرن الخامس عشر، ظل البطريرك الشهيد دانيال الحدشيتي يذود برجاله عن سيدة حصن إهدن حتى وقع في الأسر. حين سقط الحصن، انسحب المقاومون إلى خط الدفاع الثاني في تلة مار جرجس، حيث قاتلوا حتى الرمق الأخير وارتوت الأرض بدمائهم.

لم تيأس امرأةٌ إهدنية باسلة، فجمعت جثامين الشهداء وحملتها إلى كنيستي مار جرجس ومار ماما. ثم هرعت إلى بلدة كفرصغاب لتقرع الجرس إنذاراً بأن الخطر يقترب. بذلك تسلّل من بقي من المقاومين مع الأهالي نحو ملاذ لا تصل إليه إلا طيور السماء: مغارة عاصي حوقا.

هناك في تلك المغارة، اعتصم الرجال والنساء والأطفال على رجاء أن يحميهم الربّ من المماليك. مرّ يوم بعد يوم وهم يفشلون في اقتحام المغارة، حتى تحرّك شيطان الخيانة مجدداً. فإبن الصبحا لم يقاوم الإغراء، ودلّ القائد المملوكي على حيلة إبادة الجماعة المحتمية في قلب الجبل: جرّ مياه نبع مار سمعان بشري وتوجيهها نحو مغارة العصاة. اجتاحت المياه المغارة، وارتفعت صرخات المستشهدين في العتمة.

 

 

بكى ابن الصبحا بكاءً مرّاً، ولعله سمع في أعماقه صدى صرخة المصلوب. لم يجد ما يغسل خيانته سوى قرار بناء ديرٍ على اسم السيدة العذراء، قبالة مغارة الشهداء، رجاء أن يكون ذلك صك غفران يحرّر روحه من لعنة الذلّ.

 

 

مرّت السنوات، وتتابع على هذا الدير رجالٌ عاشوا بين صخور الندامة والقداسة. ترأسه يعقوب، أسقف بشري، حتى وفاته عام 1473، ثم خلفه الأسقف حزقيال في 11 أيار 1474. وفي عام 1508 جاء الراهب موسى العكاري ليتولى رئاسة الدير ويستحبس في محبسته حتى عام 1521، حين أرسله البطريرك شمعون إلى روما لمقابلة البابا أدريانوس السادس. ثم انتُخب موسى سعادة العكاري بطريركاً مارونياً، فكان واحداً من بطاركتها التاريخيين.

ومن قلب هذا الدير خرج أيضاً يوحنا مخلوف الإهدني الذي اختير بطريركاً سنة 1624، وقد حوّل الدير إلى مدرسةٍ إكليريكية تدرّس السريانية واللاتينية وتخرّج الكهنة إلى العالم. وفي عام 1631، تسلّم يوحنا الصفراوي رئاسة الدير وعمّر برجه. ثم تطوّرت المدرسة في مبنى نصفه داخل مغارة ونصفه معلّق في هواء قنوبين.

 

 

في تلك الحقبة، وبتشجيع من الأمير فخر الدين المعني الكبير، المتأثر بنشأته وفتوته في بلدة بلونة كسروان، أسّس الرهبان الفرنسيسكان ديراً لهم في محلّة الرويس – درعون، حيث خدموا الرعايا وعلّموا الناشئة في مختلف المهمات الرسولية. لكن بعد وقوع الأمير فخر الدين أسيراً بيد الاحتلال العثماني، بدأ الاضطهاد على خاصته وأصدقائه، وكان الفرنسيسكان في مقدم المستهدفين. اضطرّهم التنكيل والتهديد إلى مغادرة كسروان متوجّهين نحو قاديشا، حيث استقروا مدة في دير مار يعقوب إهدن عام 1634. ومن هناك انتقل الأب الفرنسيسكاني أوجين روجيه إلى دير ومحبسة سيدة حوقا. وكان الأب أوجين، الضليع في علم الطب، الطبيب الخاص للأمير فخر الدين وأحد أقرب مستشاريه.

 

 

كانت لنا زيارةٌ لهذا الموقع التاريخي برفقة الأب آسيا صافي، كاهن رعيّة بان، حيث نزلنا إلى عمق الوادي المقدّس سيراً ولمسنا معه عمق القصص التي روى لنا البعض منها في محطات عديدة على طريقنا إلى الدير. كذلك سرد لنا روايات شعبية عن كنيسة الدير، وأخبرنا أن القداديس والطقوس ظلّت تُقام في الكنيسة حتى عام 1965، إلى حين قدوم الأب داريو اسكوبار الذي عاش حياة النسك لمدة 25 سنة في هذا الموقع، قبل أن ينتقل إلى محبسة مار بولا عام 2020 بعد تعرّضه لوعكة صحّية.

حين تهمّ بدخول كنيسة الدير، تشعر كأنك تدخل صمتاً مقدّساً. ليس صمت الصخور فقط، بل صمت التوبة التي شيّدت هذا البناء ليظلّ حيّاً بشهادته للأجيال.

هذا الدير ليس مجرّد صومعة. إنه حكاية لم تنتهِ، لأن الأرض التي شربت دم الشهداء ما زالت تنبت قدّيسين بحسب الأب صافي. ورغم وعورة الطريق التي تقودنا نحو الموقع، يدعو الأب صافي بكلّ محبّة وتصميم الجميع إلى زيارة هذا الموقع التاريخي المقدّس لما يحمله من معانٍ روحانية وإرث تاريخي عميق.