قلعة طرابلس… تداخل العصور تحت سقف مشترك

قلعة طرابلس… تداخل العصور تحت سقف مشترك

قبل أن تصل إليها، وأنت تصعد الطريق المتعرّج من قلب السوق القديم، مروراً بخانات العطارين والحدادين وبائع عصير التوت، تشعر أنّك لا تذهب إلى مجرد قلعة، بل إلى ذاكرة. تعبر الأزقة نحو تلة أبي سمراء، وها هي ترتفع أمامك: قلعة طرابلس، تشرف على المدينة كأنها تحرسها منذ الأزل، شاهدة على قرون من الفتح والصراع والحب والتعايش.

بحسب البروفيسور خالد عمر تدمري، أستاذ العمارة في الجامعة اللبنانية، فإنّ جذورها تعود إلى سنة 25 للهجرة مع الفتح الاسلامي الأول، عندما أمر الخليفة معاوية بن أبي سفيان بإنشاء برج على تلة مشرفة، شُيّد على يد الصحابي سفيان بن مجيب الأزدي. ومع مرور الزمن، تحوّل البرج إلى حصن، ثم إلى قلعة متكاملة في العهد الفاطمي. وقد كشفت الحفريات التي أجراها عالم الآثار حسان سركيس في سبعينات القرن الماضي عن بقايا مسجد فاطمي ومشهد معماري سبق الفترة الصليبية.

 

قلعة طرابلس (النهار)

 

الصليبيون، عندما وصلوا إلى طرابلس، اتخذوا من التلة موقعاً حربياً استراتيجياً، وشيّدوا عليها تحصيناتهم، وأطلقوا عليها اسم قلعة ريمون دو سان جيل، نسبة إلى الأمير الفرنسي الذي توفي فيها أثناء إحدى المعارك، ودُفن داخلها. إلا أنّ هذه التسمية، كما يؤكد تدمري، لا تختزل تاريخ القلعة، فهي ليست “قلعة صنجيل” فحسب، بل معمارٌ متعدّد الطبقات والحقبات، من الفتح الإسلامي، مروراً بالفاطميين والصليبيين، فالمماليك والعثمانيين.

 قلعة طرابلس، على بعد 85 كيلومتراً من بيروت وقرابة 40 كيلومتراً عن الحدود السورية، أقيمت فوق تلة تشرف على نهر أبو علي، في موقع استراتيجي يتقاطع فيه البحر بالجبل والتاريخ بالجغرافيا. تمتد على مساحة 136متراً طولاً و70 عرضاً، ما يجعلها أكبر قلاع لبنان وأهم معالمه الأثرية، وواحدة من أكثر القلاع المتكاملة في المنطقة.

 

 

عند عبور الباب الخشبي الكبير الذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني، تمر ببوابة ثانية مملوكية أنشأها الأمير أسندمير كورجي، حاكم المدينة آنذاك، وفوق كل مدخل تجد نقشاً باسم من بناه، كأن القلعة تحمل توقيعات عابريها عبر الزمن.

عبر دهليز حجري وساحة فسيحة، تدخل مدينةً داخل القلعة: أكثر من مئة غرفة، قاعات للأمراء، حمامات، اصطبلات، سراديب، مساحات لتصنيع الأسلحة، وقاعات تدريب، موزعة على أربع طبقات من جهة النهر، وثلاث في الوسط، وطبقتين تطلان على المدينة. في الزوايا، مدافع عثمانية لا تزال رابضة كأنها لم تبرح زمنها، تشرف على المدينة وتحرس الذاكرة.

وفي الزاوية الشرقية، كان سائح أوروبي يلمس الحجارة، يغمض عينيه ويتحسس نقشاً صليبياً شبه مطموس. لا يعرف العربية، لكنه “يشعر” بالمعنى. الضوء يتسلّل عبر الفجوات، والهواء يصعد من النهر، في مشهد سوريالي لا يحتاج إلى شرح. هنا، لكل حجر وجه، ولكل زاوية حكاية. وبعض تلك الحجارة الرملية الناعمة لا تزال تحمل نقوشاً ارتجفت لها الأزاميل قبل قرون.

 

 

في أحد الأروقة، نواويس حجرية صامتة، كانت مدافن لجنود وقادة، اليوم تستقبل خطوات الزوار. وتحت الأرض، بوابتان سرّيتان: واحدة عند أسفل البرج الثاني عشر، وأخرى في قاعدته الثاني والعشرين، تؤديان إلى خارج القلعة، توحي بعبقرية التخطيط الحربي الذي تميز به بناتها.

وتحت قبابها، تلتقي الأديان بصمتٍ لا يحتاج إلى تبرير. فوق بقايا الحصن الإسلامي، بنى الفاطميون مسجداً في القرن الخامس الهجري، حوّله الصليبيون إلى كنيسة عام 1102، فصار المكان يختزن محراباً ومذبحاً، شاهداً على قرون من التعايش والصراع والرمزية العميقة.

وفي الداخل، أُعيد إحياء متحف شمال لبنان وعكار في قاعتين: واحدة في البرج الشمالي، تروي تاريخ القلعة والمكتشفات الأثرية فيها، والأخرى في قاعة الأمراء، تعرض قطعاً تعود إلى عصور تمتد من ما قبل التاريخ حتى الحقبات الإسلامية والمملوكية والعثمانية. وقد تم استحداث المتحفين بجهد مشترك بين لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس والمديرية العامة للآثار، وبدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية، بعد أن كان المتحف الأصلي قد نُهب إبّان الحرب اللبنانية.

وعلى رغم القيمة السياحية والثقافية للقلعة، قلّما تقام فيها فعاليات، بسبب صعوبة الوصول إليها وغياب مواقف قريبة، ما يضعف قدرتها على استضافة النشاطات العامة. إلا أن رسم الدخول لا يزال رمزياً بالنسبة إلى اللبنانيين، في محاولة لجعلها متاحة للجميع.

وإلى جانب القلعة، لا تكتمل الزيارة من دون المرور بجارتها الروحية، “التكية المولوية”، التي بنيت في العهد العثماني على ضفة نهر أبو علي، وكانت صرحاً دينياً وتعليمياً للدراويش حتى عام 1963. معها، تشكّل القلعة ثنائية تجمع بين صرامة العسكر ورقّة التصوّف، بين السلطة والتأمل.

أما أسطورة الحب التي منحت القلعة بعداً أوروبياً، فهي تلك التي أحياها الكاتب اللبناني أمين معلوف في روايته “الحب من بعيد”، وتحكي قصة عشق بين إبنة أمير صليبي والأمير الفرنسي جوفري روديل. وقد تحوّلت لاحقاً إلى أوبرا عالمية عُرضت على مسارح أوروبا، ومنحت القلعة شهرةً ثقافية عابرة للحدود.

طرابلس لا تُختصر بقلعتها، لكنها تختبئ فيها. في حجارتها، طبقات من الزمن، وفي ظلالها تسكن روايات لم تُكتب كلها بعد. أما القلعة، فهي أكثر من معلم أثري… إنها قلب طرابلس وذاكرتها التي لا تموت.