استكشفوا الجانب الآخر لمدينة غزير: التنزه في أحضان الطبيعة والتراث

غزير، من لا يعرف هذه البلدة الجميلة المتجذّرة في التراث والأصالة، من قرميد أسقفها الأحمر، إلى نوافذها المقوّسة، ومواقعها الدينية ومعالمها التراثية العديدة التي أعيد تأهيلها أخيراً؟ لكن، هل تعرفون الجانب البِكر لغزير؟
على بُعد 30 كلم فقط من بيروت، وفي قلب كسروان، يقع وادي غزير حيث افتُتح أخيراً “درب غزير”، الذي جُهّز بعناية لتوفير تجربة غامرة في الطبيعة والتراث. لا يمكن التحدث عن هذه التجربة من دون ذكر “غزير هايكنغ غروب”، المجموعة الشغوفة التي تقف خلف إعداد المسار والحفاظ عليه والعناية به. يظهر عملها في كل التفاصيل، من مدخل المسار الآمن نزولاً، إلى اللوحات الخشبية الإرشادية، والجسور التي صُمّمت لتنسجم بشكل جميل مع محيطها الطبيعي. وممّا أثّر بي أيضاً كان لقائي صبايا الكشافة ودليلات لبنان – فوج سيدة الحبشية غزير – اللواتي كنّ يعملن بتوجيه المجموعة نفسها، ويغرسن لوحات خشبية يدوية الصنع على امتداد الدرب، كلّ واحدة منها محفورة بأسماء الأشجار المحلية، ما يُضيف بعداً تعليمياً للزوّار ويُعمّق علاقتهم بالأرض.
غزير (النهار)
أثناء القيادة على طريق كفور-كسروان، لا يمكنكم أن تغفلوا عن اللوحة الإرشادية الكبيرة عند بداية الدرب على يسار الطريق التي توضح الإرشادات العامة وأرقام الاتصال بالأدلّاء المحليين ومعلومات المسارات والمسافات. أوقفوا سيّارتكم بأمان، اعبروا الطريق بحذر، ولا تنسوا التقاط صورة للّوحة والاتصال بالمسؤولين عن الدرب الذين يضمنون لكم تجربة غنيّة وفريدة. بمجرد النزول من المدخل المُعدّ بعناية، ستنتقلون إلى عالم آخر: تنوّع حرجي، أشجار تحجب الشمس في بعض زواياها، النهر على طول المسار يفيض بالحياة في الربيع، فيصدح صوته في أرجاء الوادي، بينما ترافق أصوات الطيور المشاة على مدار العام.
مررتُ بجلول زراعية قديمة، وبقايا بيوت حجرية عتيقة مثل “خربة الزايك” و”خربة كريم”، لكن هذه الأطلال لا تتحدث عن الخراب، بل تهمس بذكريات لأشخاص عاشوا يوماً بتناغم مع الأرض لا عليها فقط. ترافقكم الإشارات الخشبية الواضحة، وتوصلكم الجسور الخشبية المتقنة إلى مستويات مختلفة من المسارات.
بعد الجسر الخشبي الأول ببضع خطوات، تظهر أمامكم منحدرات صخرية عريضة وطويلة تنساب عليها المياه برفق نحو بركة في الأسفل، بينما يقف إلى جانبها جدار صخري مخطّط، طبقاتُه الأفقية تشكّل ذاكرةً جيولوجية صامتة لوادٍ كان يضجّ قديماً بمزيد من الماء والحياة. لافتةٌ تحذّر من عبور هذا السطح الجميل، فهو زلق، لكنّ المنظر حتى عن بُعد يأسر الروح ويدعو إلى التأمل بعظمة الطبيعة وماضيها الزاخر بالخيرات والعطاءات.
بالعودة إلى الجسر الأول، جذبتني الطريق لأتوغّل أكثر في الوادي، حيث علا صوت المياه المتدفقة. هنا نلتقي الحجر الجيري (الكلسي)- تارةً يكون ناعماً ويشكّل منحدرات طبيعية، وتارةً أخرى حاداً ومتعرّجاً كرواسب طبقات بحر قديم. تشعر بأنّ المكان حيّ وقديم وأبديّ في آنٍ واحد.
عند مفترقات الجسور الخشبية، يمكنكم اختيار دروب عديدة مثل “درب الشمّيس” أو “درب القلعة” وغيرها التي تؤدي صعوداً إلى الكفور. كل المسارات مميزة بعلامات وألوان واضحة ولوحات خشبية، وتفتح أمامكم أبواباً لمغامرات من الأفضل اختبارها برفقة دليلٍ محلي. المسار الأسهل متاحٌ، ومجهّز جيّداً، ومناسب للعائلات أو لهواة المشي بمفردهم ولكل من يبحث عن جمال الطبيعة من دون عناء التسلق والمغامرة.
في صورة التقطتها خلال جولتي، أجلس على حافة صخرية من الحجر الجيري قرب مجرى المياه، تحيط بي الصخور ذات الملمس الخشن، وأوراق الشجر المتناثرة، والطحالب المخملية، وأشجارٌ منحنية من فوقي كأنها حراس للمكان. إن كانت صورةٌ واحدة قادرةً على احتواء هذا الكمّ من الحياة، فتخيّلوا شعور الوقوف هناك، الاستماع لنبض الحياة، والتنفس بعمق في قلب هذه الجنة البكر.