“ألبرغو” … ذاكرة العاصمة اللبنانية في فندق صغير متنوع

في زقاق هادئ من حيّ الأشرفية، وعلى مسافة قريبة من شارع مونو، يقع فندق “ألبرغو” كواحد من تلك الأماكن التي لا تقدّم إقامة فاخرة فحسب، بل تروي حكاية مدينة تغيّرت كثيراً، وإن بقيت بعض زواياها محتفظة بنبض الماضي، ورائحة البيوت العتيقة، وأصوات الناس الذين مرّوا ذات زمن.
ألبرغو (النهار)
“ألبرغو” ليس مجرد فندق، بل أحد معالم بيروت السياحية التي تحفظ ذاكرتها. أعاد بشارة نمّور، ابن صيدا، الحياة إلى هذا المبنى الذي بُني عام 1930، وحوّله في تسعينيات القرن الماضي إلى فندق بوتيكي يحمل بصمته وحنينه ورؤيته لفن الضيافة. جمع فيه بين أصالة المكان وأناقة التجربة، ليصبح وجهة يقصدها من يبحث عن أكثر من سرير ومنظر جميل: عن دفء وقصة ومكان يشعر فيه أن بيروت القديمة لم تختفِ تماماً.
المبنى الذي يحتضن “ألبرغو” ليس مستحدثًا. شُيّد عام 1930 كمبنى سكنيّ من ثلاث طبقات، على الطراز النيوكلاسيكي، وسكنت فيه المربية تيريزا قرم حتى عام 1980. حين اقتناه بشارة نمور، كانت بيروت تلتقط أنفاسها في فترة هدنة قصيرة من الحرب. أراد أن يصنع من هذا البيت نُزُلًا دافئاً، فوسّعه عام 1994 ليُضيف إليه ثلاث طبقات أخرى، من دون أن يمسّ بروحه. بقي الحجر كما هو، والعناصر الأصلية من درابزين، وأقواس، ونوافذ، صُقلت لتستعيد بريقها الأول.
يمتدّ ألبرغو اليوم على 33 جناحاً، لا يشبه واحدٌ منها الآخر. كل جناح مؤثّث كما لو كان بيتاً مستقلًا من بيوت السفراء أو الكتّاب أو الرحالة. ستجد الأرابيسك إلى جوار الخزف الصيني، والسجاد الفارسي تحت ثريا موريسكية، ومكتبة صغيرة تضم كتباً. هذه ليست غرفاً، بل متاحف صغيرة، دافئة، تُشبه من عاش فيها ذات يوم… أو من حلم ذات مساء أن يسكن الجمال.
على سطح الفندق، يمتدّ مسبح بانورامي بطول 16 متراً، يُطلّ على بيروت القديمة والجديدة، بين قباب الكنائس ومآذن الجوامع. هناك، حيث الشرفات مزروعة بالريحان والليمون، يرتاح الضيوف في صمت يليق بمكان صُنع ليُشبه الحلم.
في الطابق الأرضي، يستقبلك مطعمAl Dente ، بتوقيع إيطالي ولمسة لبنانية. هو أول مطعم افتتحه نمّور في هذا المشروع، قبل الفندق نفسه، فصار بمثابة النواة التي نبتت منها الفكرة. إلى جانبه، صالة “Swim Club” ومطعم السطح، يقدّمان سهرات بيروت بطابع راقٍ، بعيد عن الصخب، قريب من القلب.
بشارة نمور… وعزّ بيروت
وُلد بشارة نمّور في صيدا عام 1946، ودرس الحقوق في الجامعة اليسوعية، ثم سلك طريقاً آخر تماماً. سحرته ثقافة الضيافة، فأنشأ في بيروت سلسلة متاجر ومطاعم راقية مثل “غوديز”، ثم غادر إلى واشنطن أثناء الحرب ليُدير هناك عشرين مطعماً أصبحت حديث الصحف الأميركية. لم تكتفِ به واشنطن، فسافر إلى باريس ومصر، وأنجز مشاريع كثيرة، أبرزها سلسلة “بلو نايل”.
حين عاد إلى لبنان عام 1992، حمل معه كل ما تعلّمه في المنافي، وأضافه إلى ذوقه اللبناني، ليبني فندقاً يشبهه. يقول: “أنا لم أقلّد الغرب، بل استعدت بيروت كما كانت: أنيقة، مختلفة، متوسّطية الهوى.”
الناس وصفوه بأنه عنيد ومغامر. رجل رأى أن الضيافة ليست تجارة، بل فنّ، وأن الغرفة ليست مكاناً للنوم، بل قصيدة يمكن أن تُكتب من خشب وحديد وورق جدران.
في قلب بيروت
لا يُشبه “ألبرغو” الفنادق الحديثة. لا يصرخ بفخامته، بل يهمس بها. يقع على بُعد خطوات من متحف سرسق، ومن شارع مونو، ومن الجميزة. تستطيع أن تمشي من عتبته إلى مقهى صغير، أو مكتبة عتيقة، أو كنيسة حجرية عمرها قرن. هو في القلب الجغرافي للمدينة، لكنه أيضاً في قلب ذاكرتنا الجماعية عن بيروت: المدينة التي قاومت الحرب، وتحب الحياة، وتؤمن بأن الأناقة يمكن أن تكون فعل مقاومة. لعل أجمل المشاريع هي تلك التي تبدأ بحلم صغير… وتكبر لتُدهش مدينة.