حبيب السماء | نهار

وكأن بي أرى القمر لأول مرة في حياتي؛ كما لو أنه لم يسبق لي أن شاهدت ما شاهدت.
الساعة تشير إلى قرابة التاسعة ليلاً. سيارة والدي تعبر بنا الطرق الجبلية الملتوية على ارتفاع ١٠٥٠ متراً عن سطح البحر. لم أكن قد تخطيت بعد العشر سنوات، وأخوتي الأصغر سناً غفوا بجانبي في المقعد الخلفي.
بقيت مستيقظاً انتظر الوصول إلى المنزل. أذكر من تلك الليلة صورة بقيت مطبوعة في داخلي. يومها كان القمر مكتملاً مطلاً من خلف جبل الباروك، بدا واهراً، كبيراً قريباً كما لو أنه مصباح ضخم معلق على سفح الجبل… صورة ترسخت في مخيلة صغيرة تكتشف للتو الطبيعة. سألت أمي عنه ربطاً بأغنية السيدة فيروز: نحنا والقمر جيران. لم أنم باكراً يومها. وصلت إللى المنزل ومباشرة صعدت إلى السطح أراقب. أستمتع كطفل تلقى لتوه هديته المفضلة… بصورة مفاجئة.
سماء لبنان (خلدون زين الدين)
في الليلة التالية حاولت تكرار التجربة. القمر لم يظهر بعد. السماء حالكة. نجوم تموز/ يوليو تلمع كقطع ألماس براقة. الشهب تجتاز السماء بين الحين والآخر… وشعور الشغف بعرض النجوم الليلي يرافقني ليومنا هذا بعد أكثر من ثلاثين عاماً.
كانت تلك بداية القصة.
مضت الأيام، كبرت واكشفت لبنان بعيون أبنائه وسياحه. بلد الشواطئ الفاخرة والحياة الليلية المبهرة. البحر والجبل والتاريخ والتراث. كل هذا حاضر لكن “فضائل” لبنان كثيرة لمحبي الطبيعة وأنا منهم. فضائل تستمر إلى ما بعد انطفاء أنوار الحفلات والسهر، فيحصل اللبنانيون ليلاً، لا سيما أبناء الجبال، حيث السماء صافية والتلوث الضوئي أقل من المدن، على كل ما يريدونه من السماء. هذا ليس غريباً، بل جزء رئيس من تراثهم الشرق أوسطي؛ فهذه المنطقة المنكوبة بالحروب اليوم كانت ذات يوم رائدة عالمياً في علم الفلك. منذ قرون مضت، اعتمد عرب المنطقة على علم الفلك في الملاحة بالإضافة إلى جدولة التقاليد الإسلامية. واليوم يمكن العثور على إرثهم في أسماء ما لا يقل عن 210 من النجوم الأكثر شيوعاً، وهي مشتقة من الجذور العربية.
…الزيادة السكانية والزحف العمراني اللاحق أسهما برفع التلوث الضوئي إلى مستويات كبيرة، مع ذلك، بقيت هناك أماكن في لبنان تستضيف عشاق النجوم والعروض السماوية الخلابة، بخاصة لأولئك الذين يعرفون أين ينظرون وكيف.
شخصياً، ومع السنوات، طورت شغفي بعالم النجوم. أهديت نفسي أول تلسكوب للمبتدئين وكنت بعد في سن صغيرة، قبل أن أذهب بعيداً بشراء ما هو أكثر تطوراً مترافقاً مع إطلاع ومتابعة للظواهر الفلكية، فالتقطت مجموعة من الصور كانت تنشرها نقلاً عني مؤسسات ٌإعلامية دولية كبرى. استفدت ما أمكن من التعرف إلى مجموعات تشاركني الهواية هذه، وتتنقل على قمم الجبال حيث “الرؤية” خلابة صافية.
أماكن كثيرة في الجبال اللبنانية تستقطب رواد هذا العالم الفضائي المثير. بحث بسيط على الانترنت كفيل بتبيانها جميعاً، بينها كفردبيان، اللقلوق، الشوف والقرنة السوداء. هذه الأخيرة كأعلى نقطة في الشرق الاوسط، تتيح على ارتفاع 3,088 متراً عن سطح البحر رؤية لا تخيب مطلقاً آمال أي حبيب للنجوم. هنا يمكن للغيوم أن تحيط فجأةً بالفلكيين في ضباب كثيف وتتركهم غارقين بالبرودة حتى بعد أن تتبدد.
للقصة بقية. كل محب لعالم الفضاء يتعلم كيف يبقى تلميذاً إلى الأبد. لبنان حبيب النجوم… وعلى أرضه شغف كبير بعالم شاسع مليئ بالإثارة.