الخبير عساف في الشوف… عندما يتحدث الحجر

على تلة مطلّة على بساتين الشوف وأشجار السنديان والملول، ينبض “محترف عساف” بروح فريدة تربط الفن بالطبيعة والثقافة. هنا، لا تدخل مجرد ورشة للنحت، بل فضاءً مفتوح يعيد تعريف علاقتنا بالحجر والشجر معاً، ويحوّل الذاكرة إلى منحوتات حيّة تحاكي أجيالاً.
أسّس هذا المشروع ثلاثة إخوة: عساف ومنصور وعارف عساف، أبناء عائلة عريقة في العمارة والنحت، استمدّوا شغفهم من والدهم الذي كان معمارياً ونحاتاً ومزارعاً في الوقت نفسه.
محترف عسّاف (النهار)
يروي منصور عساف خلال جولة معه في المحترف أن البذرة الأولى للمشروع زُرعت عام 1997، عندما اجتمع الإخوة على حلم مشترك يجمع الطبيعة بالفن، قبل أن ينطلق رسمياً عام 2016 تحت اسم “محترف عساف”.
“أول شيء هو الطبيعة”، هكذا بدأ منصور عساف كلامه بحماسة، مؤكداً أن الطبيعة هي الملهم الأول والأساس لكل ما يقومون به. فهنا، تحضر ثقافة العمارة البيئية والعيش المستدام، احترام البيئة والأرض، لتمنح الفن معنى أعمق من مجرد أشكال جميلة.
خلال الجولة، يشدك المشهد الأخضر المحيط بالمكان، حيث تنتشر الأشجار وعليها بطاقات تعريفية بأسمائها العلمية والمحلية، مزوّدة برموز QR لتعرّف الزوار أكثر إلى هذا التراث الطبيعي. القيقب، السنديان، الملّول، الحمبلاس وغيرها من الأصناف التي تشكّل ذاكرة الغابة اللبنانية، وجدت لنفسها مكاناً محفوظاً هنا.
لكن الحجارة هي البطل الحقيقي للمكان. داخل المحترف، تتوزع منحوتات ضخمة وصغيرة، كل منها تحمل فكرة أو رسالة. رأيت طير السلام، تلك الحمامة البيضاء التي خرجت من قلب صخرة بالصدفة، كما يقول منصور عساف، فتحوّلت إلى عمل رمزي نال جوائز عالمية. في الزوايا الأخرى، تنتصب تماثيل لشخصيات لبنانية ومبدعين خلّدهم النحت كأرشيف حيّ للذاكرة الثقافية.
مشروع الإخوة عساف لا يقتصر على المنحوتات، بل يمتد ليعرّف الزوار إلى مفهوم البيت البيئي، بأسقفه المزروعة بالعشب والتي تحميه من الحر والبرد، وتجري تحتها أنظمة لتجميع مياه الأمطار وإعادة استخدامها. العمارة هنا جزء لا يتجزأ من احترام البيئة والإنسان، ضمن فلسفة تقول أننا ضيوف على الطبيعة ولسنا أسيادها.
في فضاء المحترف نفسه، تنتشر أعمال نحت مبتكرة وأفكار فنية غير مألوفة، من بينها منحوتة ميخائيل نعيمة التي تعتمد خدعة بصرية فريدة؛ إذ يظهر وجه الأديب اللبناني من زاوية محددة فقط، في تلاعب ذكيّ بين الضوء والظل يجمع بين الواقعية والتجريد، فيثير دهشة الزوار. ويؤكد منصور عساف أن هذه المنحوتة فريدة من نوعها على مستوى العالم، ولم تُنفذ بهذه التقنية من قبل.
بين الزراعة والحجر والفن، تشعر بأن “محترف عساف” في بلدة الورهانية في الشوف لا يقدم تجربة فنية وحسب، بل يدعوك لتتأمّل علاقتك بالأرض والجمال والذاكرة. فهنا، يلتقي التراث مع الحداثة، وحرفية المعلم التقليدي مع رؤية فنية معاصرة، في مساحة مفتوحة للناس ولكل زائر يريد أن يتعلّم كيف يصير الحجر نبضاً حيّاً.
يقول منصور عساف: “نحن لا نملك شيئاً في الحياة، حتى هذا المشروع سيبقى ملكاً للوطن”. وربما بتلك الجملة البسيطة، تُختصر حكاية عائلة كرّست موهبتها وجذورها وخبرتها لتمنح لبنان ذاكرة منحوتة في الحجر، لا تزول.