بيروت من خلال العدسة البصرية لتوم يونغ: ممثل بريطانيا للبنان على الساحة العالمية

الجميزة، بيروت. الطير ينسج جدران عشّه في كوّة داكنة، ويتأهّب لصيفٍ مثمر. صخب الشارع يزيد المدينة حياةً، وأبواق السيارات تكاد لا تستكين. الشارع مزدان بالزهور والأشجار والضحكات؛ فضاؤه مفتوح على سماء تسمع حكاياتنا، ولقصصنا التي ربما لم نبُح بها.
في بناية أنيقة تحمل ملامح الزمن البيروتي القديم، محترف توم يونغ. مساحة تفيض بالألوان والأفكار، يمتزج فيها الشرق والغرب بصورة الرسّام البريطاني، وتتناغم فيها الثقافات مع ألوان لوحاته. البيت البيروتي العتيق صورة للعلاقة الدقيقة بين العالمين: عالمه البريطاني، ولبنان، البلد الذي يغفو على تاريخ عميق من أصوات وألوان وذكريات.
بلغة عربية تزيده “هضامةً”، مطعّمة بالإنكليزية البريطانية، يستقبل توم يونغ زائريه الفضوليّين. الباب الخشبي الأبيض يُفضي إلى عالم مزخرف بالأصباغ الزاهية. حتّى في أشدّ اللوحات قتامةً، ألوانه زاهية. يستعيد محطّاته في بيروت التي حلّ فيها قبل زمن. يبتسم لكلّ ما مرّ به هنا، المرّ والحلو والأحلى. لكلٍّ منّا حكاياته الخرافية مع بيروت؛ تلك الحكايات التي نكاد لا نصدّقها. حكايات الحب، والدمع، والأقدار التي تتلاعب بنا ولا نقوى على عنادها.
لا يرسم توم يونغ في بيروت ما تراه العين المجرّدة، بل يرسم ما يعيشه وما يشعر به. في محترفه، تنعتق اللوحة من إطارها المادّي، وتظهر انعكاساً حقيقياً لتجربة حياة تمتزج فيها رؤاه مع روح المدينة. يُدرك جيّداً كيف يلتقط اللحظات الدقيقة التي لا تلتقطها الكاميرات، ويتوسّل بضربات فرشاة ليوثّقها.
بيروت توم يونغ تتعدّى الحيّز الجغرافي نحو حالة من الاندماج والتشابك بين الذات والأرض والتاريخ. لا ينظر إليها بأعين كثيرين ممّن عرفوها، بل يراها متاهةً من الألوان والظلال، في كلّ زاوية قصّة، وكلّ عنصر يتحدّث عن حالة نفسية. الشوارع القديمة، حيث تتناثر بقايا الزمن الجميل، تنبض في لوحاته، فتخلق مشهداً بصرياً يروي صراع الإنسان مع المكان والزمان.
في أعماله عمق يكتسبه عبر تداخل العناصر. ثمّة إشارات ورموز يكاد يراها قليلون تكشف عن قصص المدينة. في كلّ لوحة، هناك تلك اللحظة السحرية حيث الخط الفاصل بين الشرق والغرب. كلّ حركة على القماش تنبع من سعي الفنان إلى فهم ذاته في عالم غريب وغير ثابت، بينما يدرك تماماً أن بيروت، بكلّ ما تحمله من تناقضات وأصوات، مشهد مفتوح يحتوي على كلّ تباين في الثقافة والحياة.
يعكف توم على التقاط الإشارات والإيماءات البيروتية، خلال ساعات طوال في محترفه، حيث تختلط أصوات الشارع بأصواته الداخلية. يفكر في التفاصيل الدقيقة للمدينة؛ في شوارعها الضيقة التي تحتفظ بذكريات قديمة، وفي معمارها الذي يعكس التقاليد والحداثة. بيروت، بشوارعها المتشابكة، مرآة لعالم توم يونغ الخاص، الذي يتنقل بينه وبين واقعه، يبحث عن معانٍ جديدة في اللحظات اليومية.
هنا الحياة جميلة، وفيها شيء من البساطة الأنيقة، الغنيّة بتفاصيلها الصغيرة. يريد أن يرسم ما يشعر به، أن يترجم أحاسيسه وأفكاره ورؤاه، ليصحّح سرديّات الإعلام الأجنبي التي تنحرف نحو تشويه سمعة وطن ومدينة. نقول له إنّه أشبه بسفير أجنبي للبنان في العالم، فيضحك.
بين بيروت التي حطّ فيها لأول مرة، وتلك التي يرسمها اليوم، مسافة من التحوّل والخذلان والانبهار. تغيّرت المدينة، وغيّرته. صار يعرف أنها لا تمنحنا أسرارها دفعة واحدة، لكنها لا تكفّ عن إبهارنا.