سكين جزينية مستوحاة من طائر الفينيق

سكين جزينية مستوحاة من طائر الفينيق

تتميّز مدينة جزين “عروس الشلال”، في جنوبي لبنان، بموقعها الفريد بين غابات الصنوبر الغنّاء والجبال التي تعانق السماء على ارتفاعات تتخطى الـ1000 متر. لكن صناعاتها الشهيرة، من السكاكين والخناجر والسيوف المرصعة والمطعّمة، تضاهي شلالها تميّزاً، وقد وصلت شهرتها إلى آخر الكون.

 

السكاكين الجزينية (النهار)

 

 يبدأ تاريخ حرفة السكاكين وما يتفرع منها، في جزين، عام 1770، مع آل حداد، الذين كانوا يمتهنون الحدادة. في ذلك الوقت، لم يكن منتشراً استعمال الملعقة والشوكة، فكانت مشغولاتهم تقتصر على صنع أدوات قتال مثل الخناجر والسيوف والبنادق، ويستخدمون لقبضاتها قرون الجاموس أو الماعز أو حتى عظام الخروف والعاج. ومع تطور الزمن، تحوّلوا إلى صناعة أدوات المائدة، وتوقفوا عن استخدام القرون، لأنها مادة طبيعية تمتص المياه وتفسد الطعام وتشكّل خطراً صحياً. 

 

 مع انتشار هذه المنتجات الصناعية الجزينية التي وصلت إلى العالمية، ولا سيّما السيوف المرصّعة بالذهب، التي كانت تمثّل أجمل الهدايا وأثمنها للملوك والرؤساء وزعماء العرب والعالم، فضلاً عن أنها تؤمن السيوف للضباط خريجي المدرسة الحربية، ارتفع عدد العاملين في المهنة ليشمل عائلات شاهين وعون وعبد النور ورحيّم وأبو راشد والعاقوري وقرداحي وغيرهم. ورغم التخوف من انقراض هذه المهنة، لا تزال محال أصحاب المهنة في سوق جزين التراثية شاهدة على صمودها رغم التحديات. 

 

 

 

“النهار” استطلعت في جولة ميدانية في جزين أوضاع عدد من أصحاب هذه الحرفة والعاملين فيها، والذين هم على معرفة شاملة بكل تفاصيلها. وفي مشغل آل حداد ومتجرهم، في سوق السدّ التراثية، وهو الأعرق في تصنيع السكاكين والملاعق والشوك والخناجر والسيوف المزخرفة والمرصعة والملونة وبيعها، قالت المسؤولة عن المبيعات غريس رزق: “الصنعة بدأت سنة 1770 مع بيت حداد. وبعد استعمالهم المواد الطبيعية وتصنيعهم أدوات المائدة، توقفوا عن استخدام القرون، وبدؤوا استخدام مادة مميّزة اسمها  Acetate cellulose ، وهي مزيج من بودرة الزجاج والخشب والقطن، وهي نفسها التي تُستخدم في صناعة زجاج الطائرات.

 

 

 

إنها مادة صلبة لكنها في الوقت نفسه مرنة، وتسمح لنا بأن نبدع تحفاً فنية تليق باسم جزين”.

 

 ولفتت إلى “أن اكتشاف مادة الـ Acetate cellulose صار مصادفة. ففيما كان الإنكليز والفرنسيون يتحاربون في منطقة جزين، سقطت طائرة في وادي جزين، وهرع الأولاد ليتفقدوا الحطام. وقتها، كان سمير حداد، وهو من الجيل الرابع لعائلة الحدادين، ويُعرف بـ”شيخ الحرفيين”، في الثامنة من عمره. أخذ زجاج الطائرة، وراح يشتغل عليه في القبو، وصنع منه سكيناً صغيرة. لما صار عمره 14 سنة، أتت امرأة إنكليزية، واشترت منه السكين بخمسين ليرة، وكان مبلغاً هائلاً وقتها”.

 

 

 

تشير رزق إلى أن آل حداد “تنبهوا بعد هذه السكين الصغيرة إلى قوة المادة ومتانتها، ووجدوا أنها لا تتأثر بالرطوبة وعامل الزمن، فأرسلوا عيّنة من زجاج الطائرة إلى فرنسا، حيث أجري لها تحليل، فتبيّن أنها مادة “أسيتادو سيلليلوز”، ومن وقتها اعتمدت أساساً في هذه الصناعة”.

 

كل قبضة سكين أو شوكة تمرّ بـ 11 مرحلة، وكل قطعة تتعاقب عليها 11 يداً. وفيها 73 قطعة من النحاس، ويجري تزيينها يدوياً. حتى الزخرفة الصغيرة التي لا تتعدى النصف سنتيمتر، من ورد ونقاط وعين، يجري حفرها وإدخالها في القطعة، لتصبح تحفة متكاملة، وفقاً لرزق.

 

وفي شرحها رمزية العصفور الذي يجري تصنيعه، تقول رزق: “له رمزية كبيرة. ثمة روايتان في شأنه: الأولى تقول إنه مستوحى من طائر الفينيق الأسطوري الذي يشبه لبنان، الذي لا يموت، والذي يحترق ثم ينهض من رماده ويعيش من جديد. أما الرواية الأخرى، فترجع إلى الحرب العالمية الأولى، إلى وقت المجاعة، عندما التهم الجراد الأخضر واليابس، حينها لم يجد العصفور الجائع ما يطعم صغاره، فصارت الأم تطعمهم من لحم صدرها. ومن هنا نرى دوماً منقار العصفور نازلاً على صدره، كرمز للتضحية والعطاء”.

 

وتابعت: “أحد الحدادين استلهم هذه القصة، وابتدع  أول موديل، وصار العصفور رمز جزين. وهو اليوم الهدية الرسمية باسم الدولة اللبنانية، وقد أُهدي إلى شخصيات عالمية مثل جاك شيراك، البابا بنديكتوس السادس عشر، كوفي عنان، أحمدي نجاد، رونالد ريغان، جون كينيدي، فيديل كاسترو، هوغو تشافيز، وميخائيل غورباتشوف. وأحد هذه النماذج، تحديداً الذي أُهدي إلى غورباتشوف، كانت قيمته عالية جداً لدرجة أنه صار معروضاً في متحف روسي”.

 

وفي تحول واعٍ نحو الحفاظ على الحياة البرية العالمية، توقف الحرفيون الجزينيون عن استعمال العاج، علماً أن ثمة قطعتين قديمتين مطعمّتان بالعاج، ولهما مكانتان عظيمتان، الأولى موجودة في متحف إيراني كانت هدية للشاه، والأخرى سيف مصنّف بين أهم خمسين سيفاً في العالم، مصنوع في زمن العثمانيين، ومعروض اليوم في أحد المتاحف التركية.