مغارة الرويس بالعاقورة… رحلة إلى أعماق الهدوء والجمال

مغارة الرويس بالعاقورة… رحلة إلى أعماق الهدوء والجمال

في أعالي بلدة العاقورة الجبلية ضمن قضاء جبيل، خضنا تجربة استثنائية داخل مغارة الرويس، إحدى أجمل المغاور الطبيعية في لبنان وأكبرها. لم تكن الرحلة عادية، بل جاءت ضمن جولة علمية واستكشافية برفقة فريق متخصص من جمعية المغاور اللبنانية، ما أضفى على التجربة بعداً معرفياً وبيئياً في موقع نادر يحتاج إلى عناية وتوثيق.

مغارة الرويس (النهار)

 

قبل الدخول، استقبلنا علاء الهاشم، أحد أبناء المنطقة وأصحاب المغارة، المطلع على خفاياها المخبأة خلف مدخل بسيط وسط الجبال. عند الفتحة، لفت انتباهنا وجود معاصر نبيذ حجرية يُعتقد أنها تعود إلى العصور الرومانية أو الفينيقية، دلالة إلى أن هذه المنطقة لم تكن مجرّد ممر طبيعي، بل مركز لحياة اقتصادية قديمة استثمرت جوف الأرض وبرودتها في صناعة النبيذ.

 

دخلنا المغارة بصعوبة نسبية نتيجة وعورة المسار، وبدأنا الهبوط خطوة بخطوة، بينما انخفضت درجات الحرارة تدريجياً إلى 17 درجة مئوية، وارتفعت نسبة الرطوبة. الممرات موحلة وضيّقة أحياناً، وتتسع أحياناً أخرى لتكشف عن غرف ومجسمات صخرية فريدة، تتداخل فيها الصواعد والنوازل بتكوينات مذهلة صنعها الزمن ونحتها الماء ببطء مهيب.

تتألف مغارة الرويس من ثلاث طبقات طبيعية: الطبقة العادية أو الوسطى هي التي يشكل المدخل ومسار الزوار ويتم فيها الشرح عن المغارة وأهميتها، أما الطبقة الموجودة تحت الأرض فهي طبقة المغامرات التي تضم ممرات ضيّقة وتكوينات صخرية ضخمة وأشكال منحوتة ناتجة من دوران الحصى داخل المياه عبر آلاف السنين، وتتطلب قوة بدنية أكبر من الطبقات الأخرى. أما الطبقة العلوية فغير مسموح للزوار بزيارتها حفاظاً على طبيعة المغارة وسلامة الزائرين.

 

 

 بعد الاستماع إلى شرح من فريق المغاور، فجأة طُلب منا إطفاء كل المصابيح!… لحظة صمت مطلق وعتمة تامة، لا ضوء ولا ظل، فقط صوت المغارة: قطرات ماء تتساقط من سقف بعيد، وصدى خافت لأنفاسنا، وانغماس كامل في العزلة التامة. كانت تلك الدقيقة في الظلام من أكثر اللحظات صدقاً، شعرنا خلالها بعظمة هذا الكيان الطبيعي وبدقة النظام البيئي الذي حافظ على توازنه آلاف السنين بعيداً عن أعين البشر.

وبعد هذه التجربة الرائعة أكملنا الجولة مع فريق جمعية المغاور المزودين بالأجهزة والمعدات اللازمة، ليبينوا لنا القيمة الجيولوجية لكل تشكيل صخري مررنا به، محذرين من أي عبث أو لمس غير محسوب، إذ قد يؤدي أقل ضرر إلى إتلاف تكوين طبيعي نادر استغرق مئات السنين في التكوّن. وكما وصفها أحد أعضاء الفريق، “المغارة مختبر حيّ، وكل حجر فيها وثيقة جيولوجية تحفظها الطبيعة بعناية”.

 

 

  وعلى رغم أن مغارة الرويس ليست وجهة سياحية تقليدية، ولا يمكن دخولها إلا بإذن خاص وتحت إشراف خبراء بيئيين، حفاظاً على خصوصيتها وهشاشة نظامها البيئي، هي في الوقت ذاته تجربة لا تُفوّت لعشاق الطبيعة والاكتشافات.

في مغارة الرويس، لا تكتشف فقط طبقات من الصخر، بل طبقات من الدهشة والانبهار. هناك، في عمق الصمت، يتكشّف الجمال على مهل، كأن الأرض تبوح بأسرارها فقط لمن يصغي ويتأنّى.

وكما تحفظ المغارة أسرارها في الظلمة، علينا نحن أن نحفظها من التلوّث والإهمال والعبث.
 زيارة الرويس ليست فقط مغامرة، بل مسؤولية وفرصة نادرة لرؤية لبنان من زاوية مختلفة.

زوروا مغارة الرويس، وادعموا السياحة البيئية في لبنان… لأن في هذا الجمال كنزًا يستحق أن يُكتشف ويُصان