الكهوف البحرية في كفرعبيدا: صخور منقوشة بالزمرد والأزرق

الكهوف البحرية في كفرعبيدا: صخور منقوشة بالزمرد والأزرق

كما يفيض لبنان بالجمال فوق أرضه، يخبئ في أعماقه كنوزًا لا تقل روعة، عجائب صامتة، ضاربة في القِدم. من بين هذه الكنوز، تبرز مغاور كفرعبيدا البحرية، الغارقة جزئياً أو المحاذية لسطح الماء، والمنحوتة بفعل الرياح والأمواج وإيقاع الزمن الجيولوجي على مدى قرون، لتشكّل مشهداً استثنائياً على الساحل اللبناني.

 

كفرعبيدا (النهار)

 

تقع كفرعبيدا جنوب مدينة البترون، وتُعد من أنقى الشواطئ في لبنان. مياهها صافية، باردة في بعض زواياها، تلامس الصخور الكلسية الملساء، فتخلق عالماً تحت الماء لا يشبه غيره.  هذا المكان ليس مجرّد لوحة طبيعية، بل نظام بيئي دقيق، يجمع بين ينابيع المياه العذبة والمياه المالحة، ما يُنتج بيئة نادرة تحتضن أنواعاً متعددة من الكائنات البحرية، من أسماك وسلاحف إلى إسفنج وشعاب مرجانية. إنها ليست مجرد مشاهد خلابة، بل أنظمة بيئية حيّة وهشّة، تحتضن تنوعاً بيولوجياً ثميناً تجب حمايته لا استغلاله.

 

 

 

عندما استكشفت هذا المكان للمرة الأولى قبل أكثر من عقد، أدركت أنه ليس مجرد موقع طبيعي، بل كائن حيّ يتنفس. ودائما أعود إليه، لأتأكد من أنه ما زال ينبض بالحياة. 

 

 

 

ركنتُ سيارتي قرب “جوينينغ بيتش-Joining Beach”، نقطة انطلاق مفضلة لمن يعشقون المغامرة، من متسلقي الصخور في البحر إلى من يتركون صخب المدن بحثاً عن الصفاء. سرتُ نحو المسار الجانبي، ومن الأفضل ارتداء حذاء مائي للمشي على الصخور الملساء والطحالب الزلقة بسهولة، وصولاً إلى حافة صخرية تنزلق منها إلى البحر. سبحت وانعطفت نحو اليسار حيث تنخفض حرارة المياه قليلاً، فالتقطت أنفاسي وغصت تحت الماء أسفل الصخور أفتش عن مصدر ضوء الشمس، الدليل الأنسب إلى الداخل، إلى مغارة نصف مغمورة بالماء. في الداخل، امتزج الضوء وانعكاساته على المياه والصخور، وكانت التجربة أقرب إلى لحظة بين الحلم والواقع. أشعة الشمس تتسلّل من الأعلى، ترسم خطوطاً ذهبية عبر الماء الفيروزي. الجدران الصخرية مخططة تتلوّن بالزمرد والأزرق، والأسماك الصغيرة تسبح في أسرابٍ شفافة، تنسج بين الضوء والماء عالماً من السكون النابض بالحياة.

 

 

 

هنا، حيث الجمال الخام الذي لم تُشوّهه يد،  تعيد الطبيعة ترميم نفسها بصمت، وتحتفي بالحياة في أضعف زواياها.

وفي الجوار، تمتد ممرات مائية تشبه مغاور صغيرة. بعضها يسمح بالسباحة أو استعمال الكاياك، وبعضها مجرد فتحة ضيقة بين الصخور، يتسلّل منها الضوء وتتلون المياه كلما مرّ شعاع.

لكن الحذر ضروري. لا يُنصح بالسباحة في حال وجود موج أو تيارات قوية.

 

 

 

زيارة كفرعبيدا ليست مجرد نزهة بحرية، بل عودة إلى ذاكرة لبنان الطبيعية، إلى طبقات الزمن المنحوتة في الصخر، إلى أنفاس البحر المخفية. مغاورها صمدت أمام العواصف، واحتضنت الحياة في أكثر صورها رقة وهشاشة. وقد صنفها العلماء واحدة من أهم النقاط البيئية الحيوية على الساحل اللبناني.

 

 

 

لكن هذه الكنوز، كما غيرها في لبنان، ليست مضمونة البقاء، فالساحل يواجه ضغوطاً متكررة من مشاريع التطوير التي تهددها باستمرار. ومع ذلك، وقفت المجتمعات المحلية ومجموعات الناشطين البيئيين في وجه هذه التهديدات، وسعوا جاهدين للحفاظ على الشاطئ عاماً للجميع، خالياً من الإسمنت، حياً كما كونته الطبيعة. المعركة لم تنتهِ بعد، لكن كل من يسبح في هذه المياه، أو يستكشف هذه الكهوف بوعي، يُصبح جزءا من قصة حماية هذا الشريط الساحلي الفريد.