برمّانا… ذكريات الزمن الجميل | النهار

برمّانا… ذكريات الزمن الجميل | النهار

 

برمّانا ليست ارتفاعاً جغرافياً يُقاس بالأمتار، بل علوٌّ في الذكرى والمكانة، عند خاصرة جبل صنين وقلب المتن. إنّها بلدة تُعاش كما الفصول الجميلة في عمر الإنسان. هنا، لا تمشي في الطرقات فحسب، بل تسير في ذاكرة مشتهاة، بين بيوت القرميد العتيق ومقاهي الصيف التي ما زالت تحتفظ بضجّتها الأولى. في برمّانا، لا يصافحك الحنين صدفة، بل يستقبلك عند العتبة، حيث ما زال ظلّ الجدّ جالساًعلى المصطبة ذاتها، ينتظر قهوة المساء.

 

برمّانا (النهار)

 

هي “عروس المتن” كما سُمّيت في زمن الأربعينيات، ورئة الجبل كما يعرفها أبناؤها. بلدة تجمع في زواياها النوستالجيا والمستقبل، وتحمل على أكتافها ذاكرة السائح العربي الذي ما زال يرى فيها لبنان الحقيقي، ذاك الذي يحتفظ بطعمه وألوانه ونكهة ياسمينه.

في هذا السياق، يقول عضو المجلس الاختياري في بلدية برمانا، كمال أبو سمرا، في حديث لـ”النهار”: اسم برمّانا مشتقّ من اسم إله البرق والعواصف عند الآراميين، المعروف باسم ريمّان، وكان الرمّان وزهره – الجلنار – رمزه في الميثولوجيا القديمة، لما يحمله من دلالة على الوفرة والانتشار، إذ إن الثمرة الواحدة تحوي مئات الحبات، شأنها كحكايا هذه البلدة التي تفرّعت في الأرض والقلوب”.

 

 

ويُضيف: “تمتد برمّانا على هضبة بطول 7 كيلومترات ومساحة 10 هكتارات، وتطل على رأس المتن وجبل صنين. في القسم الغربي منها، تنتشر غابات الصنوبر، ولهذا تُعرف بأنها رئة المتن. عدد سكانها نحو 18 ألف نسمة، وأكثر ما يميزها أنها تضمّ 64 درجاً و7 ينابيع”.

ولا يغيب عن ذاكرة أبو سمرا “مطعم منير”، الشهير في برمّانا، الذي صار، على حدّ قول السيّاح الخليجيين، “من لم يزر منير، لم يزر لبنان”.

ومن قصص العشق التي لا تُنسى، أن لورنس العرب (توماس إدوارد لورنس) تعلّم العربية على يد فريدة عقل، وهي ابنة برمّانا، ووقع في حبّها، حتى إنه استمر في مراسلتها، وعندما زار الأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث لبنان، سأل عن بلدة فريدة التي أسرَت قلب لورنس. وقد أوصت فريدة قبل وفاتها بأن ترافقها صورة لورنس في نعشها الى مقابر الكويكرز في البلدة.

وفيها أيضاً، كما يشير أبو سمرا، أكبر جناح فندقي في العالم موجود في غراند هيلز، إلى جانب أكثر من 27 فندقاً وبنسيون، فضلاً عن الأزقة التي تتوزّع فيها مطاعم عالمية تسمح للسائح بأن يتذوّق ما يشاء من الأطباق، من الفرنسية إلى الهندية الى الطعام الصيني والعربي والخليجي… وهو تنوّع حرص عليه رئيس بلديتها بيار الأشقر لجعل برمّانا مدينة للمذاقات والأمزجة.

 

وإن كانت الأرقام والوقائع تُظهر عظمة المكان، فإن ذاكرة الناس هي من تحفظ روحه.

تتحدّث مختارة الغابة – المتن، جمال زينون أبو جودة، بنبرة حنين خالص إلى البلدة التي ترافقها منذ الطفولة، تقول: “برمّانا هي الأحياء القديمة الحلوة، هي الطراز المدني التقليدي للمنزل اللبناني. وفيها غابة تعود إلى زمن قديم، حتى إن بعض المرويّات الشعبية تقول إن هارون الرشيد مرّ بها، والنواويس والمدافن الموجودة فيها تعود إلى حقبته. وقد عُثر في الغابة ذاتها على كتب نادرة أُرسلت إلى إيطاليا لفحصها، ثم لم يُعرف عنها شيء بعد ذلك”.

وتُضيف: “كان في برمانا مطعم اسمه غراس هوبر، يجمع المشاهير والفنانين. اليوم، يأتي الجيل القديم ليُحيي النوستالجيا، أما الجيل الجديد، فيقصدها بحثاً عن الترند والمطاعم. ومع ذلك، برمانا لا تزال تجذب المشاهير من دون أيّ دعاية استثنائية، وإذا أُعيد الاعتناء بها بجدية، فهي قادرة على أن تعود إلى أمجادها كما كانت”.

وتستذكر أيضًا حيّ الفبركة وحيّ الكنائس، تلك الأزقة التي تحمل في حجارتها عراقة وعنفواناً: “برمّانا ليست فقط مقاهي ومطاعم، بل تراث عمراني فيه أبنية قديمة بأبواب خشبية ضخمة تنتمي إلى زمن مختلف”.

أمّا عن مدرسة برمانا هاي سكول، فتشير إلى أن أثرياء العرب وثقوا بهذه البلدة الهادئة، فاختاروا أن يتعلّم أولادهم فيها، لكونها بلدة التربية، والهواء النظيف، والعيش الكريم: “من سلطان عُمان الحالي هيثم بن طارق، إلى كبار السياسيين اللبنانيين… مرّوا من هنا”.

وبين أزقّة الحنين هذه، تمشي حكاية ميشال عوّاد، العائد من الغربة بجراحه وقلبه.
في الرابع من آب 2020، حين خطف انفجار مرفأ بيروت الطفلة ألكسندرا نجّار، حفيدة ميشال الذي شغل عضوية بلدية برمانا قبل 25 عاماً، اختار أن يُعيد روحه إلى الجبل، إلى بلدته. عاد من أفريقيا، حيث أمضى سنوات، ليهب ما بقي من عمره لبلدته الأم.

وبرمّانا لم تنسَ ابنها ميشال، فطلبت منه المساهمة في تأسيس وحدة الخطّ الساخن البلدي، حيث تطوّع بخبرته ووقته لخدمة الناس.
برمّانا، بالنسبة إلى ميشال، ليست فقط بلدة جميلة، بل هي العزاء الحقيقي بعد الخسارة، والحاضنة التي أعادته إلى الحياة بعد الموت.

وهكذا، حين تمشي في برمّانا، لا تمرّ فقط بين بيوت القرميد، ولا تعبر فحسب من مقهى إلى آخر، بل تسير فوق قصص لا تزال تتنفس، وتسمع في ضوء الصنوبر همس من رحلوا وبقيت حكاياتهم.
برمّانا ليست بلدة، إنها قصيدة، وكل من زارها ذات صيفٍ كتب بيتاًفيها.