رحلة إلى جنوب لبنان: كنوز مغمورة في ظل صخب التحديات

جنوب لبنان… وما أدراك ما جنوب لبنان. أرض خصبة بالعطاء، مترعةٌ بالتاريخ، مشبعةٌ بروح التراث. قراه تتناثر كعناقيد الضوء فوق التلال؛ بيوت تراثية يكلّلها القرميد، وأخرى بسيطة في معمارها، لكنها دافئة في روحها. يجمعها كلها كرم الضيافة، طِيب اللقاء، ولقمةٌ بيتية تُحضَّر بحُبّ وتُقدَّم بامتنان.
الجنوب اللبناني (نضال مجدلاني)
الجنوب ليس مجرّد وجهة، بل حكاية تُروى، تنبع من عمق الأرض وتفيض بعطر الزيتون والزعتر. هو مزيج من الإيمان والتاريخ، من الجمال والصمود، من الإنسان والأرض التي لم تخذله يوماً.
تطلّ قلعة الشقيف (بوفورت) في النبطية على المشهد كأنها تسرد قصص الزمان وحدها. شامخةٌ على تلة تتوسط الجنوب، تراقب سهول مرجعيون ودير ميماس ونهر الليطاني، تحفظ ذاكرة الحروب والانتصارات، وتُذكّر الزائر بأن لهذه الأرض جذوراً لا تُقتلع.
وفي دير ميماس، تمشي على دروب هايكنغ بين أشجار الزيتون المعمّرة، تمرّ على أزقة حجريّة، بيوت أثرية وكنائس قديمة، ومن أبرز معالمها دير مار ماما، ودفء الناس يرافقك أينما حللت.
تتقدّم نحو جديدة مرجعيون، وإذا بك تغرق في جمال السهول الممتدة بين الخيام ومرجعيون. الحقول، والمنازل ذات الأسقف القرميدية، والسوق القديمة، تشكّل مشهداً يصعب على الذاكرة نسيانه. هي ليست فقط بلدة، بل نافذة تطلّ منها على لبنان آخر… لبنان الهادئ، العابق بالتراث، حيث تجد البساطة والثقافة التي تبهج الروح، والكرم الذي لا يُنتظر عليه مقابل.
ثم تأتي كوكبا وسيدة حرمون التي تستقبلك بأيادٍ مفتوحة، وموقع عين المسيح تنساب بمائها من أسطورة إيمانية متوارثة، يُقال إن السيد المسيح فجّرها عند مروره. هنا، تشعر بأنك تمشي على أرض مُباركة، مبلّلة بالإيمان وملفوفة بهدوءٍ يليق بمكانتها.
وعند الوصول إلى حاصبيا، تنقلك مطاعمها المقامة على ضفة النهر إلى عالم آخر. جلسات هادئة، أطباق تقليدية محضّرة بعناية، ووجوه طيّبة تحفظ لك الابتسامة واللقمة. وعندما تتنقل فيها، تجد القلعة الشهابية العريقة ومسجدها الأثري وكنائس قديمة وجديدة، كلها شاهدة على التعدد والتعايش، كلٌ يحكي فصلًا من حكاية الجنوب.
لكن، لا يمكن أن نتحدث عن الجنوب من دون أن نلامس الواقع. هذه المنطقة الغنيّة ما زالت تعاني من الغياب السياحي، بسبب الأزمات والتوترات والحروب التي كثيراً ما تحجب جمالها عن الأنظار. ورغم ذلك، يبقى الجنوب حاضراً في ذاكرة من زاره، ثابتاً في طبيعته، وفي ناسه، وفي تفاصيله اليومية الصغيرة التي لا تُشترى.
الجنوب ليس مكاناً يُزار فحسب، بل تجربة تُعاش. فيه ترى لبنان الذي لا يُصرّح عن نفسه كثيراً، لكنه موجود في نَبض الأرض، في ظلّ الزيتونة، في حجارة الكنائس والمساجد، وفي صمود الناس.
وإن غابت عنه العدسات، فهو لا يغيب عن قلب من يعرف قيمته.