‘سألني الناس’… واللحن الذي أدمع زياد هذه المرة

تتخدّر الروح في العادة عند سماع خبر مرتبط بالموت، فكيف إذا كان الفقيد شخصيّة أحببناها من دون أن نلتقيها، شخصية كانت تسكننا من دون أن نستوعب تماماً متى بدأت تقيم فينا؟ أعلم أن الموت حق لا يُرد، ولا اعتراض عليه، لكنّ مشاعر الفقد لا تعترف بالمنطق. إنها تستيقظ في كل مرة تخسر فيها الحياة أحد أولئك الذين صنعوا من الفن ملاذاً.
رحل زياد الرحباني. والرحيل هنا ليس خبراً عابراً، بل نبش لذاكرة لا تريد أن تنام. قد لا أكون من الذين عاشوا زمنه المسرحي، أو حضروا مسرحياته في زمن الحرب، أو التقوه وجهاً لوجه، لكنني مثل كثيرين شعرت بأنني أعرفه، تماماً كما نعرف أنفسنا حين تتعب، أو حين تتذكّر أن فيها نبضاً لا يزال يقاوم.
لطالما بدا زياد إنساناً قبل أن يكون فناناً، متعباً في بعض الأحيان، حادّاً في أخرى، وحنوناً في غالب الأحيان أيضاً من دون أن يقول ذلك حرفياً. زياد هو ذاك الصدق الذي لا يساوم. ولعلّ هذا ما يجعل وداعه وجعاً خاصاً.
 
لا أدري لمَ استوقفني، في زحمة كل ما قيل عن زياد، ما يُعتبر من أكثر الحقائق المعروفة عنه: أنه لحّن أول أغنية لوالدته السيدة فيروز، وكانت “سألوني الناس”. قديمة هي هذه المعلومة، لكنّها بالنسبة لي توقّفت عند محطة شخصية جداً.
لـ”سألوني الناس” مكانة خاصة في قلبي. كانت شقيقتي الصغرى، سارة، هدية من السماء، ومَن علّمتني أن بعض الأغاني ليست مجرّد ألحان بل طقوس حياة. حين اشتدّ عليها المرض الخبيث، كانت تلك الأغنية ملاذها. لم تؤمن بسحر “نامي يا صغيرة” عندما كانت تحاول تهدئة طفلتي الباكية، بل كانت تختار “سألوني الناس”، وكأنها تعرف أنّ في صوت فيروز، وفي لحن زياد، ما يتجاوز الطبطبة العادية إلى بلسم خفيّ لقلوب قلقة وموجوعة، وكانت الأغنية تنجح دائماً.
غنّت سارة تلك الأغنية في عزّ وجعها، إلى أن غابت. ولم أعرف سرّ هذا التعلّق بها حتى قرأت ذات يوم أن الأغنية ولدت من قلب ألم، حين مرض عاصي الرحباني ودخل المستشفى. كتب منصور الرحباني كلمات تشبه الرسائل الخفية من فيروز إلى شريك عمرها، وغنّتها فيروز بعد أن غاب عاصي عن المسرح للمرة الأولى.
زياد الرحباني (الصورة من غوغل)
لحن الأغنية كان من توقيع زياد، ابنها، الذي كان لا يتجاوز السابعة عشرة. أما التوزيع فكان من نصيب الياس الرحباني. عائلة من وجع وموسيقى وأمل. ومن هناك، بدأت أغنية تؤاسي كل من عرف الفقد.
اليوم، أبكي سارة كما بكت فيروز عاصي. واليوم، أبكي زياد الذي جعلنا نبكي بطريقة جميلة، لا تنهكنا، بل تُشعرنا أن الحزن فن أيضاً. واليوم، أسمع الأغنية من جديد، وأشعر أن زياد لحّنها لي أنا أيضاً، ولكل من فقد شيئاً لا يُعوّض.
في رحيل زياد، أعود إلى اللحظة الأولى التي التقيت فيها الأغنية، ولا أملك سوى أن أردد مع فيروز: “بيعزّ عليي غني يا حبيبي… لأول مرة ما منكون سوا”.