“دقيقتان من فراغك” | النهار

د. محمّد ماجد *
كان المولّد الكهربائيّ الخاصّ بأحد الفنادق في الحمراء يقع تحت نافذة غرفة نومي، لم يكن يومها كواتم صوت، وكانت الكهرباء تزورنا في المناسبات، وكانت حربٌ أهليّة.
لم أكن أستطيع النوم، ولم تكن يومها وسائل متقدّمة لسدّ الآذان بسمّاعات Active Noise Cancellation ولذلك كان هدير مولّد الكهرباء والحرب الأهليّة ضيفيّ الدائمين.
كان هناك اختراع اسمهWalkman وهي مسجّلة صغيرة بسمّاعات أذن كبيرة. صمّدت من مصروفي شهوراً لأشتريها. وكان ثمّة أشرطة لا واحد منها يشبه الآخر، مخبّأة في صندوق قديم ومكتوب عليها: بعدنا طيّبين قول ألله! سألت أبي فقال: هذه أشرطة ممنوعة لزياد الرحباني!
ممنوعة؟ سأسمعها كلّها!
كانت الثمانينيّات، وقد مضى على تسجيل هذه الحلقات في الإذاعة اللبنانيّة تحت القصف، عشر سنوات، هكذا عرفت لاحقاً. صوتان في الأشرطة: شابٌّ ظريف بلكنة المنطقة الشرقيّة وكهل طريف بلكنة زحلاويّة لذيذة، زياد الرحباني وجان شمعون.
“أنا شايفتك قاعد مش صامد… إيه صامد عالقاعد! وفي زبالة بتحطّ كولونيا! وكولومبوس يسرد في جزيرة ويقول: ألله يلعن السّاعة اللي اكتشفتك فيها! وفنّانين لبنان، يا عيني على فنّانين لبنان! أهل الأريحة والأريحيّة… وقهوة الهورس شو اللي عم يكبكبو فناجين القهوة… واختلط الحابل بالنّابل، سوريّا بتبعتلك ردع ومصر بتبعت فلافل!”.
لم أكن أفهم شيئاً ولكنّني حفظت الأشرطة عن ظهر قلب، فقد استمعت إليها كلّما هدر مولّد الكهرباء، ومولّد الحرب الأهليّة يهدر كلّ يوم، إلى اليوم، وإن بأشكال مختلفة!
ثمّ اكتشفت ثلاثة أشرطة صفراء لدى بائع على العربة: “فيلم أميركي طويل”! ما إن قرأت زياد الرحباني على غلافها حتى اشتريتها وانضمّت إلى مجموعة الواكمان، ولم أقتنع أنّ رشيد هو نفسه زياد وإلى الآن أظنّه كان الحكيم، بيار جماجيان. ثمّ أدركت لاحقاً أنّ زياد هو رشيد والحكيم معاً!
وتوالت الاكتشافات: كلّ كلمة قالها أو عزفها زياد صارت معي وفي أذنيّ… لدرجة أنّني كدت أشارك بتمثيل مسرحيّاته مع طلّاب الجامعات لولا انشغالي بالعمل، فقد كنت أدرس قبل الظهر وأعمل بعده.
زياد الرحباني كان يقولني في كلّ شيء… حتّى إنّه كان يقول ما سأقوله حين أكبر وأفهم الحياة أكثر… كنت من قلّة يفهمون أنّ زياد ليس ظاهرة طريفة فحسب، وليس مجرّد معلّق ساخر على الأحداث. هو صاحب فهم عميق لما يجري، فهم نابع من روح شفيفة تخلو من العقد، وعقلٍ مثقّف موسوعيّ ورجلٍ مبدئيّ عنيد. كنت أستمع إلى مسرحيّاته المسجّلة على أشرطة وأرسم بنفسي الديكور ووجوه الشخصيّات، وأذوب شوقاً لأشاهد مسرحيّة منها… حتّى أعلن عن مسرحيّة “بخصوص الكرامة والشّعب العنيد”، فشاهدتها 10 مرّات في مسرح البيكاديلليّ وأختيها: “لولا فسحة الأمل”، و”الفصل الأخير”. لم أفهم كلّ شيء، ولكنّني فهمت أنّه يقول الكثير، وأنّ كثيرين لم يفهموا ما يقول، ومع ذلك ينتقدون بعنف… من الأمور التي لم أفهمها إقحام الكهرباء في عمل مسرحيّ رؤيويّ، أليست تفصيلاً في بناء الوطن؟ وأدركت لاحقاً أنّها مجرّد رمز يكثّف العقليّة التي ستدير البلاد عقب الحرب الأهليّة، التي انتهت فصولها مطلع التسعينيّات وبدأت فصولاً جديدة لا تنتهي. وذهبت للقاءاته الحواريّة حول المسرحيّات الجديدة ولم يتسنّ لي تقبيل زياد في جبينه، وإلى الآن أفهم المزيد كلّما شاهدت وسمعت ما كان يقول، وأقول في نفسي سيأتي يوم أجتمع فيه، فلا أزعجه بالثرثرة وإنّما أكتفي بتقبيل جبينه.
في ساحة رياض الصّلح، متضامنين مع الإضراب عن الطعام لموظّف لم يلتفت إليه أحد، جاء زياد! كان حلماً تحقّق! كنت كطفل في غرفة ألعاب ولديه دقائق ليختار اللعب التي يحبّها، فإذا كلّ اللعب يحبّها، فيعجز عن الاختيار! كنت يومها مشغولاً بفكرة الشيوعيّة المؤمنة، فسألته… قال لي: القيم الإنسانيّة نفسها! بعد سنوات طويلة، وقبيل الانهيار الكبير، رأيته في مقهى بالأشرفيّة، هجمت عليه بلا وعي سائلاً: أريد دقيقتين من وقتك! أجاب، ممسكاً ظهره من ألم ظاهر على وجهه: دقيقتين؟ شو قلال الدقيقتين؟ أدركت يومها أنّ زياد يستعدّ لتوديعنا… صار شديد الحساسيّة تجاه الوقت… غادرته خجلاً، فأردف معتذراً: ظهري عم يوجعني… وقلت في نفسي: كنت أريد أن أقول لك: نحتاجك فلا ترحل… أرسلت له في إحدى الحملات التي تطالبه بتأليف مسرحيّة جديدة: أرجوك يا أستاذ زياد، ألّف مسرحيّة واعرضها وسوف أشاهدها كلّ يوم! قيل لي إنّه ابتسم… ثمّ اعتذر عن مسرحيّة جديدة لن تبصر النّور، لعلّه اكتفى بمسرحيّة تكتب نفسها كلّ يوم في هذا الوطن الذي أنكره أبو الزلف في “شي فاشل”.
اليوم صار لكلمات زياد في أذنيّ طعم مختلف، وحين أضع السمّاعات لأستمع ما يقولني فيها، وعلى الرّغم من التطوّرات التقنيّة والتقدّم الحضاريّ والـ Active Noise Cancellation فقد صرت أسمع هدير مولّد الكهرباء مزعجاً أكثر، وهو يهدر كلّ يوم، على إيقاع الحروب الخفيّة والظاهرة، وصوت زياد يخفت باستمرار، لأنّني حين أسمعه اليوم، وغداً، وكلّ يوم، لا أتوق ليوم ألقاه فيه، يوم ليس في ظهره ألم، فأقبّل جبينه، وأقول له: لا أحتاج دقيقتين من وقتك، أحتاج كلّ وقتك، لأنّنا نعيش، تماماً، كما وضعت في مسرحيّة “الأمل”، فوق فسحة الصرّاف، ساعةً لا تعمل… صرنا، يا زياد، نعيش خارج التّاريخ.
* باحث ومؤلّف تربوي