تأملات زياد الرحباني لناديا تويني حول النزاع في لبنان

بيروت، 1980. المدينة خلّعتها الحرب، حطّمتها، سحقت شيئاً من روحها. يجول المخرج الراحل مارون بغدادي في شوارعها برحلة، محاولاً فهم هذا اللبنان المتصدّع من خلال صوت شاعرة مرهفة، ميلانكوليّة، هي ناديا تويني. الكاميرا مرآة لجيل ضائع يبحث عن خلاصه وسط الأنقاض.
واسم الفيلم القصير “حنين إلى أرض الحرب”. وغسان تويني، يوم كان مندوباً للبنان لدى الأمم المتحدة، شاء أن يعرضه أمام أعضائها. “كان الفيلم مصوّراً قبل فترة، إلا أنّه كان محجوزاً وممنوعاً لأنّه ضدّ الحرب”، يقول في كتابة “سرّ المهنة وأسرار أخرى” (دار النهار للنشر)، “نعم لأنّه ضدّ الحرب، يفضح تخريبها لبيروت ولبنان ويبشّر بعودة الحياة”.
ملصق فيلم “همسات“. (نادي لكل الناس)
بعد وفاة ناديا (1983)، أعاد مارون طرح الفيلم على غسان. كانت الشاعرة التي هشّمت الحروب والمآسي روحها قد كتمت أمره عن زوجها خشية ألّا يوافق على مجازفتها هكذا بصحّتها وسلامتها. و”حنين إلى أرض الحرب” توسّع وصارت مدّته ساعة ونصف ساعة، وصار اسمه “همسات”. شارك في السيناريو والنص الشاعر أنسي الحاج، وفيه أحاديث حيّة مع عدد كبير من الأدباء والفنانين ورجال الأعمال… ومنهم زياد الرحباني.
“توحي الحوادث اللبنانية أموراً ثمّة صعوبة في معالجتها، كون الظروف ما زالت مستمرّة”، يقول زياد على حافة البيانو. وناديا وبغدادي يصغيان، والحرب دائرة. “إذا أخذ أحدهم مشكلة وأراد معالجة كل جوانبها لتكون واقعية ضمن مسرح واقعي، يشعر أنّ ثمّة ما لا يمكن أن يقوله، بكلّ بساطة”. هكذا شاء زياد المتمرّد أن يختصر فلسفته لمقاربة الواقع المأزوم مسرحيّاً. يلفت لى أنّ “التسمية والأسماء لا تزال صعبة، وثمّة حالة من الفوضى المسلّحة في البلد، وحالة من اللاديموقراطية الناتجة من هذه الفوضى، بعكس التصوّر أنّ الحرّية موجودة”. الحرّية في عينيه كانت “تميل إلى الفلتان أكثر من كونها حرّية قول حقيقية”، ولا يتصوّر “أنّ أيّ طرف يتقبّل الحقيقة ويقوم بردّة فعل على الذي يُقال له”.
زياد يُمثّل الشعب البسيط الغارق في الأزمات. كان مسرحه صوت المستضعفين والمأزومين و”الطفرانين” الذين لا يملكون شيئاً. “ثمّة حالة من الضياع مطبوع بها أيّ شخص منّا”، قال أمام كاميرا بغدادي، “ولم تعد تعرف حقّاً كيف تحوّل مجرى الأحداث. الوضوح قبل الحرب فاق الوضوح في الفترة هذه، وتشعر أنّ مواقع الأفرقاء معرّضة بين لحظة وأخرى للانقلاب نحو العكس تماماً”.
ويقول زياد: “المستقبل لا أراه أصلاً”. وتنتقل الكاميرا إلى ناديا التي تُعاين أشلاء بيروت. وغسان تويني يتذكّر أنّه “لما عُرض الفيلم على التلفزيون اللبناني للمرة الأولى، وفي مرّات تالية، كان له ولا يزال أثر بالغ”. وشعر ناديا تويني وفلسفة زياد الرحباني وثّقا قساوة الحرب، وفيلم مارون بغدادي لا يزال يُعرض، و”نتفليكس” أتاحت مشاهدته قبل سنوات، وما زلنا نتأمّل به لفهم الحاضر والماضي.