اليابان تواجه تحديات الرسوم الجمركية… والاقتصاد في موقف حرج

أعلن رئيس الوزراء الياباني شينغيرو إيشيبا عن اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة يتضمن فرض رسوم جمركية بنسبة 15% على الصادرات كافة، بما في ذلك السيارات، القطاع الذي لطالما شكّل جوهر العلاقة الاقتصادية بين طوكيو وواشنطن. هذا الإعلان لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان لحظة انعكاس لمرحلة من التراجع السياسي العميق والانقسامات داخل الحزب الحاكم، لكن أبعاده الاقتصادية قد تكون أكثر عمقاً مما يظهر على السطح.
الصفقة الأخيرة… ونهاية غير معلنة لرجل فقد الدعم
ثلاث هزائم انتخابية متتالية حوّلت موقع إيشيبا من زعيم طموح إلى عبء ثقيل على الحزب الليبرالي الديموقراطي. ومع خسارته الأغلبية في مجلسي البرلمان، أصبح واضحاً أن قدرته على المناورة تتآكل سريعاً. توقيعه على صفقة كان يرفضها علناً قبل أسابيع، يؤشر إلى محاولة لشراء الوقت أو ربما كتابة الفصل الأخير في مسيرته الحكومية.
الاتفاق الذي تم الإعلان عنه ينص على فرض رسوم جمركية بنسبة 15% على الصادرات اليابانية إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك السيارات، مع وعود باستثمارات تصل إلى 550 مليار دولار داخل الولايات المتحدة، تشمل قروضاً وضمانات لإنشاء سلاسل توريد في قطاعات الأدوية والرقائق. الصفقة تشمل أيضاً زيادة في واردات الرز الأميركي من جانب اليابان، لكنها لم تتطرق إلى رسوم الصلب والألومنيوم البالغة 50%.
الأسواق تبتسم موقتاً… لكن الغموض يخيّم
رد فعل الأسواق كان إيجابياً للوهلة الأولى. قفز سهم تويوتا بأكبر نسبة في أربعة عقود، وصعد مؤشر نيكاي بنسبة 4%، مدفوعاً بارتياح المستثمرين إلى إزالة حالة عدم اليقين. ولكن خلف هذا التفاؤل الموقت تكمن أسئلة حرجة: ما تكلفة هذا الاتفاق فعلياً على قدرة اليابان التنافسية؟
قطاع السيارات الذي يُشكّل أكثر من ربع صادرات اليابان إلى الولايات المتحدة، تضرر سابقاً برسوم بلغت 27.5%، لتُخفّض الآن إلى 15% — أقل من التهديد السابق بفرض 25% إضافية. لكن هذه التنازلات أتت على حساب استقلالية القرار الاقتصادي، بخاصة أن اليابان وافقت على إلغاء اختبارات السلامة الخاصة بالسيارات الأميركية، ما اعتبره البعض انتقاصاً من معايير الحماية المحلية.
أزمة قيادة داخل الحزب وغياب بديل واضح
تداعيات الاتفاق تتجاوز المسار الاقتصادي. ففي الداخل، تتسارع المطالب داخل الحزب الليبرالي الديموراطي بإيجاد قيادة جديدة قادرة على استعادة ثقة القاعدة الانتخابية التي بدأت تميل نحو التيارات الشعبوية. لكن المعضلة تكمن في غياب بديل مقنع قادر على جمع الأطراف المتصارعة ضمن الحزب، ما ينذر بمرحلة من الجمود البرلماني وتآكل الفعالية التشريعية.
صورة تعبيرية (وكالات)
الاقتصاد الياباني بين المطرقة الأميركية وسندان الداخل
إن استمرار التصعيد الجمركي كان سيُدخل رابع أكبر اقتصاد في العالم في ركود مؤكد، لذا فإن تخفيف الرسوم يعتبر إنقاذاً موقتاً، لكنه لا يغيّر من واقع هشاشة اليابان في المعادلة التجارية الجديدة. فبينما ارتفعت الاستثمارات، فإن هذه الأموال مشروطة بسلاسل توريد أميركية، لا بمصالح يابانية مستقلة.
في المقابل، أعربت شركات السيارات الأميركية عن قلقها من أن الاتفاق يمنح الأفضلية لمركبات يابانية لا تحتوي على مكونات أميركية، مقارنة برسوم 25% لا تزال مفروضة على سيارات تُصنّع في المكسيك وكندا وتحمل محتوى أميركياً كبيراً. وهو ما دفع اتحاد السياسة الصناعية الأميركي إلى وصف الصفقة بأنها “ضارة بالعمال الأميركيين”.
اتفاق الضرورة أم هزيمة مغطاة بالابتسامات؟
لا شك في أن الظروف التي قادت إلى الاتفاق كانت ضاغطة. فقد كانت اليابان تفتقر إلى أوراق ضغط حقيقية، وسط تصاعد النزعة الحمائية في واشنطن. لكن ما يُحسب لإيشيبا أنه أنهى حالة الترقب، ولو بثمن سياسي باهظ. فقد حافظ على استقرار الأسواق موقتاً، وضمن استمرار التبادل التجاري في حدوده الدنيا.
إلا أن السؤال يبقى: هل هذا هو أفضل ما كان يمكن تحقيقه؟ أم أن إيشيبا اختار الخروج بهدوء بدلاً من المواجهة؟
اليابان تبحث عن بوصلة جديدة
برحيل إيشيبا المحتمل، تدخل اليابان مرحلة دقيقة من إعادة التوازن السياسي والاقتصادي. العلاقة مع الولايات المتحدة ستظل حاسمة، لكن الأصوات تتعالى داخلياً لسياسة أكثر استقلالية وقدرة على حماية المصالح الوطنية من دون الرضوخ الكامل لإملاءات الشركاء الخارجيين.
لقد انتهى فصل من فصول السياسة اليابانية بطريقة هادئة ومبهمة. أما ما سيأتي بعده، فسيحدده الصراع بين التيارات القديمة والجديدة في طوكيو، وبين الرغبة في الانفتاح والخوف من التبعية الاقتصادية.
في كل الأحوال، يبقى العنوان الأكبر للمرحلة القادمة: من يقود اليابان في عصر التحولات العميقة؟ وهل سينجح في ظل التضخم المرتفع والنمو المتباطئ والتحول إلى السياسة النقدية التشددية؟