زياد الرحباني: وداعاً لمُجدد المسرح والموسيقى

زياد الرحباني: وداعاً لمُجدد المسرح والموسيقى

فاروق غانم خداج:

 

في صبيحةِ السادسِ والعشرينَ من تموز، سقطَ خبرُ وفاةِ زياد الرحباني كصاعقةٍ على قلوبِ من واكبوا تجربتَه، وتربَّوا على صوتهِ وجرأتهِ وموقفِه. لم يكنْ زياد فنّانًا عابرًا في حياةِ اللبنانيين، بل كانَ ظاهرةً فنّيةً فكريّةً، بدأتْ منذ صغرهِ واستمرَّتْ في مواجهةِ الزيفِ والتزويرِ والفسادِ، حتى في أحلكِ الظروفِ وأكثرِ اللحظاتِ خيبةً وضياعًا.

هو ابنُ فيروز وعاصي الرحباني، وُلِدَ ليجدَ نفسهُ في بيتٍ مكتملِ النغمِ والثقافةِ والمواقفِ. لكنّه لم يكنْ ظلًّا لأحد. فسرعانَ ما تمرَّدَ على الصورةِ الكلاسيكيّةِ للغناءِ اللبنانيّ، وراحَ يشقُّ طريقًا خاصًّا به، متسلّحًا بالموسيقى، والمسرح، والسخريةِ السوداءِ، والنقدِ اللاسعِ، والعينِ الثاقبةِ التي ترى في الهامشِ ما لا يراهُ الناسُ في المتن.

في المسرحِ، قدَّمَ زياد الرحباني عددًا من الأعمالِ الخالدةِ التي تنقلتْ بين الكوميديا السوداءِ والتراجيديا اليوميةِ، مثل “نزل السرور”، و”فيلم أميركي طويل”، و”بالنسبة لبكرا شو”، و”بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، وغيرها. مسرحياتٌ كانتْ أشبهَ بمنشوراتٍ سياسيّةٍ لاذعة، تنتقدُ الحربَ، والطائفيةَ، والسلطةَ، والفسادَ الإداريَّ والاجتماعيَّ، وتعيدُ تشكيلَ الوعيِ الشعبيّ من دونِ شعاراتٍ مباشرةٍ، بل عبرَ الحكايةِ والعبارةِ العاميّةِ والضحكةِ المريرةِ التي كثيرًا ما تُبكي أكثرَ ممّا تُضحك.

أبطالُ مسرحياتِه كانوا من الناسِ العاديّين: موظفونَ بسطاءُ، حالمونَ معدمون، عشّاقٌاً منهكون، متمردونَ ضائعون، و”حشاشون” يملكونَ من الحكمةِ ما لا يملكهُ الساسةُ والأكاديميون. اختارَ أن يتكلّمَ بلسانِهم، ويبوحَ من خلالِهم بما لا يُقال، فلامسَ وجدانَ الشارعِ وأعادَ للمسرحِ دورهُ التنويريُّ بعدما أوشكَ أن يتحوّلَ إلى رفاهيةٍ نخبويّة.

أما في الموسيقى، فقد كانَ زياد مجدّدًا حقيقيًّا. أدخلَ الجازَ إلى الأغنيةِ اللبنانيّةِ، وكسّرَ البنيةَ التقليديةَ للألحانِ، ورفضَ الغنائيةَ الفارغةَ التي لا تقولُ شيئًا. كان يؤمنُ بأنَّ اللحنَ حاملٌ للمعنى، وأنَّ الكلمةَ لا تقلُّ شأنًا عن الإيقاع. كتبَ ولحّنَ وغنّى أغانيَ أصبحتْ جزءًا من الذاكرةِ الجماعيّةِ، مثل “إيه في أمل”، و”عودك رنان”، و”شو عملتلي بالبيت”، و”مربى الدلال”، و”ورجعت الشتوية”، وغيرها. أغانيهُ حملتْ قضايا الناسِ ومشاعرهم، من الحبِّ إلى السياسةِ، ومن الوحدةِ إلى الغضبِ، ومن الأملِ إلى خيبةِ الانتظار.

ما يميّزُ زياد ليس فنّه فحسب، بل موقفُهُ الفكريُّ الواضحُ والجريء. لم يُسايرْ أحدًا، ولم يُجاملْ سلطةً، بل وقفَ في وجهِ السائدِ والفاسدِ والموروثِ، وعبّرَ عن انتمائهِ اليساريِّ من دونِ مواربة، مؤمنًا بحقِّ الإنسانِ في الكرامةِ والحرّيةِ والعدالةِ الاجتماعيّة. نقدَ المجتمعَ من داخلهِ، وسخرَ من الخطاباتِ الطائفيةِ، وحذّرَ من التبعيّةِ العمياءِ، وكانَ دائمًا صوتَ الضميرِ في زمنِ الأقنعة.

لم يكنْ سهلًا أنْ يكونَ زياد الرحباني “زياد الرحباني”. دفعَ ثمنَ مواقفهِ عزلةً أحيانًا، وحروبًا إعلاميّةً، ومقاطعاتٍ، وحتّى تجريحًا شخصيًّا. لكنّه لم يتراجعْ، ولم يتنازلْ، بل ظلَّ ثابتًا على خطِّه، لا يعترفُ إلّا بالناسِ البسطاءِ الذين أحبّوه بصدق، ووجدوا فيه مرآةً لوجعِهم ونبضًا لخيبتِهم.

رحيلُ زياد ليس حدثًا فنيًّا فحسب، بل هو لحظةٌ وطنيّةٌ بامتياز. لأنّه كانَ يحضرُ دائمًا حين يغيبُ الجميع، يصرخُ حينَ يصمتون، ويضحكُ حينَ يبكون، ويقولُ الحقيقةَ حينَ ينشغلُ الآخرونَ في تزييفِها.

زياد لم يكنْ ابنَ فيروز فقط، بل ابنَ الوطنِ بأسرهِ. حملَ وجعَ الناسِ على خشبةِ المسرحِ، وغنّى لهمْ في ليالي البؤسِ، وعلَّمهمْ أنَّ الفنَّ موقفٌ لا مهنةٌ، وأنَّ المسرحَ منبرٌ لا مجرّدُ عرضٍ، وأنَّ الأغنيةَ وعيٌ لا طرباً فقط.

ككاتبٍ شهدَ على مشروعِ زياد الرحباني، أجدُ في تجربتِه ما يجعلُها جديرةً بأنْ تدخلَ في المناهجِ التعليميةِ، لا كمجموعةِ أعمالٍ فنيّةٍ فحسب، بل كموقفٍ إصلاحيٍّ متكاملٍ، يستخدمُ الفنَّ وسيلةً للتربيةِ والتنويرِ والتغيير. زياد ليس مادّةً فنيّةً فحسب، بل مادّةٌ ثقافيّةٌ وفكريّةٌ واجتماعيّة، تصلحُ لتكوينِ وعيٍ نقديٍّ عندَ الأجيالِ الجديدة، وتحثُّهم على التفكيرِ الحرِّ، والموقفِ الصادقِ، والانتماءِ إلى الإنسانِ لا إلى الطائفةِ أو الحزبِ أو الزعيم.

لن يغيبَ زياد، لأنّه لم يكنْ يومًا شخصًا فقط، بل كانَ مشروعًا، ورسالةً، وروحًا في كلِّ من قالَ “لا” في وجهِ الزيفِ، وكلِّ من ضحكَ ليخفي دمعًا، وكلِّ من آمنَ بأنَّ الفنَّ يمكنُ أنْ يغيّرَ العالمَ، ولو بمسرحيّةٍ قصيرةٍ أو أغنيةٍ صادقة.

وداعًا زياد. وداعًا أيّها العاشقُ الحزينُ، والفنّانُ العنيدُ، والمصلِحُ الذي لمْ يسكتْ. ستبقى في ضميرِنا، وفي مقاعدِ المسرحِ التي ستشتاقُ لضجيجِك، وفي الأوتارِ التي ستبحثُ عن نغمتِك، وفي ضحكاتِنا الموجوعةِ، وفي آهاتِنا الساخرةِ، وفي السؤالِ الذي لا يموت: “بالنسبة لبكرا… شو؟”.

 

(**) كاتبٌ لبنانيّ وباحثٌ في الأدبِ والفكرِ الإنسانيّ