رصد العمارة والمدينة في ‘بيت بيروت’: منصة لدعم الفضاءات العامة وتجديد البيئة الحضرية

في قلب بيروت، وفي المبنى الذي يحمل كدمات الحرب الأهلية، والذي بتنا نسمّيه “بيت بيروت”، وُلد أخيراً فضاء جديد للحوار والتفاعل – والفعل – المدني: “مرصد العمارة والمدينة”. من داخل المبنى الشاهد على العنف والذاكرة، أُطلقت منصة تطمح إلى رصد تحوّلات المدينة عبر الفعل الجماعي والمعرفة التشاركية، في محاولة لصوغ إجابات عن أسئلة صعبة: كيف يمكن لمدينة مثل بيروت أن تبقى قابلة للعيش؟ وكيف نصون ما تبقّى من هويتها المعمارية، ومساحاتها العامة، وحقوق سكّانها؟
يُشكّل المرصد مساحة تفاعلية للباحثين والناشطين والمعماريين ومجموعات المجتمع المدني، من أجل التلاقي على قضايا المدينة الآنية. إنه أشبه بمنصّة تفكّر بصوتٍ عالٍ في قضايا مثل حق السكن، والنقل المشترك، وتصميم المشهد المدني، وإعادة الإعمار كفعل سياسي ومسؤول، لا كمجرّد نشاط تقني.
أمام “مرصد العمارة والمدينة”، وجب التمييز بين “المرصد المثالي” الذي ينتج المعرفة ويغذّي السياسات العامة، و”المرصد الممكن” خلال السنة الأولى من انطلاقه، والذي يطمح إلى أن يكون مساحة عرض ومشاركة، تجمع ما ينتجه الآخرون – من جمعيات ومراكز وأفراد – حول قضايا المدينة الأكثر إلحاحاً.
مسارات رسمها زوّار المعرض، تمتدّ من منازلهم إلى أماكن عملهم في مدينة بيروت.
وبحسب المهندسة المعمارية هالة يونس، فإنّ “المرصد يروّج للجودة المعمارية، والحفاظ على تراث المدينة، سواء في شكله المادي أو اللامادي، وحماية المساحات الطبيعية والتنوع البيولوجي”. وتؤكّد في حديث لـ”النهار” أنّ “مواضيع المدينة والتنظيم المدني يجب أن تتحوّل إلى مواضيع رأي عام، لا أن تبقى بين الاختصاصيين والأكاديميين”، معتبرة أنّ “المواضيع التي يدور في فلكها عمل هذا المرصد هي مواضيع تتعلّق بالشأن العام، وموجّهة للجمهور الواسع ليتعرّف إليها، ومن ضمنها موضوع النقل المشترك والشبكة الحديثة”.
وتشير يونس إلى أهمّية “رفع مستوى الوعي بالمخاطر التي تُهدّد المدينة، من حروب وكوارث طبيعية وغير طبيعية، وتلوّث ومضاربات عقارية وفوضى عمرانية، كما يسعى إلى إشراك الجمهور في مواجهة التحدّيات التي تعانيها الخدمات العامة، مثل شبكات توزيع المياه والطاقة، ومعالجة المياه المبتذلة، وفرز النفايات، ووسائل النقل المشترك”.
ثلاثة محاور تختصر مهمة المرصد:
1- الحفاظ على التراث
ليس التراث مجرد مبانٍ قديمة، بل هو ذاكرة المدينة وشاهد على تحوّلاتها. ويعرض المرصد في هذا السياق فيلم “رحلة في أرشيف العمارة” الذي يوثّق جهود المركز العربي للعمارة في حماية وتوثيق التراث المعماري الحديث.
2- ترميم البيئة والمدينة
المدينة، بحسب المرصد، ليست مجرد بنية عمرانية، بل كائن حيّ يتأذى ويُشفى. ويقدّم استوديو “أشغال عامة” عملين بصريّين عنف المدينة، بدءاً من آثار الحرب، مروراً بتدمير البيئة، وصولاً إلى جشع المضاربين العقاريين. فيلم غسّان حلواني “لم يعودوا يروا في الأرض سوى أمتار مربعة” هو أحد أبرز المعروضات في هذا المحور.
3- المشاركة في الفضاء العام
كيف نعيد المدينة إلى سكّانها؟ سؤال تحاول المعروضات الإجابة عنه من خلال تسليط الضوء على شبكات النقل المشترك وأهميتها في تحقيق عدالة حضرية واقتصادية. لأننا لا نستطيع الحديث عن بيروت أكثر قابلية للعيش، فيما يستنزف الناس نصف رواتبهم في طريقهم إلى العمل.
المرصد بوصفه شبكة لا مبنى
يستمد “مرصد العمارة والمدينة” قوته من شراكاته مع مبادرات فاعلة، من بينها: “المركز العربي للعمارة”، “مبادرة حسن الجوار” في الجامعة الأميركية في بيروت، “استوديو أشغال عامة”، و”المجموعة للعمارة في لبنان”. هذه التعددية لا تعني التشتّت، بل تعكس إيمان المرصد بأن لا أحد يملك الحقيقة الكاملة، وأن التغيير يبدأ من فتح النقاشات لا احتكارها.
المعرض الحالي مستمر حتى 30 تموز/يوليو 2025، مفتوح يومياً من الساعة 12 ظهرًا حتى 8 مساءً (عدا الإثنين والثلاثاء). لكنها ليست دعوة إلى المشاهدة فحسب، بل إلى المشاركة والسؤال: كيف نعيد بناء مدننا بطريقة تليق بمن عاشوا فيها، وبمن سيعيشون بعدنا؟
في “بيت بيروت”، المبنى الذي نجا من القنص ليصبح مساحة للذاكرة والمستقبل، وُلد المرصد. والمفارقة أن هذا “البيت” الذي شهد تشظي المدينة، بات اليوم شاهداً على محاولة لتركيبها من جديد، لا بحنين أعمى، بل برؤية نقدية تُنصت وتبادر.