تصاعد التوترات الأذربيجانية مع روسيا… هل تودع موسكو آخر حلفائها في منطقة القوقاز؟

يتصاعد التوتّر في العلاقات الروسية–الأذربيجانية في فصل جديد من فصول النزيف الديبلوماسي الذي تتعرّض له موسكو بعد خسارة حلفاءها التاريخيين في القوقاز تباعاً، ما يهدّد بفقدان نفوذها في المنطقة التي لطالما اعتُبرت حديقتها الخلفية ومجال أمنها القومي.
الخلافات بين الطرفين، والتي بدأت بتحطّم طائرة الركاب الأذربيجانية، واكتسبت زخماً بمقتل مواطنين أذربيجانيين خلال مداهمات للشرطة في مدينة يكاترينبورغ الروسية، انحدرت بشكل متسارع مع إصرار باكو على التصعيد، مدعومة بتحالفها مع أنقرة، ومستغلّة تخبّط موسكو في المستنقع الأوكراني.
حملات اعتقال متبادلة وأزمات ديبلوماسية
واصل الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف لهجته الهجومية تجاه روسيا، إذ أعلن في 20 تموز/يوليو تحضير بلاده لرفع دعوى قضائية ضد موسكو على خلفية تحطّم طائرة الركاب الأذربيجانية من طراز Embraer E190، المتّجهة من باكو إلى غروزني في 25 كانون الأول/ديسمبر 2024، بعدما أُصيبت بصاروخ أطلقته منظومة دفاع روسية، وفق الرواية الأذربيجانية.
حاولت الطائرة الهبوط اضطرارياً في كازاخستان، لكنها تحطّمت قرب مطار أكتاو، ما أسفر عن مقتل 38 راكباً من أصل 67 كانوا على متنها. ورغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعرب عن “أسفه للحادث المأسوي”، فإنه لم يعترف بمسؤولية موسكو ولم يلبِّ مطالب باكو المتمثّلة بـ:
• اعتراف روسي رسمي بالمسؤولية عن الحادث وتقديم اعتذار علني.
• محاسبة ومعاقبة المسؤولين عن إسقاط الطائرة.
• دفع تعويضات لعائلات الضحايا.
• تعويض الأضرار التي لحقت بشركة الخطوط الجوية الأذربيجانية (AZAL).
وفي 27 حزيران/يونيو، داهمت الشرطة الروسية منازل أذربيجانيين في مدينة يكاترينبورغ، ضمن تحقيق في جريمة قتل تعود إلى أكثر من 15 سنة مضت، قُتل على إثرها الشقيقان حسين وزيادين صفاروف، وأُصيب آخرون بجروح خطيرة.
ردّت باكو بإلغاء زيارات رسمية وفعاليات ثقافية روسية، قبل أن تقوم بمداهمة مكاتب وكالة “سبوتنيك” الروسية شبه الرسمية واعتقال 7 من موظفيها، إلى جانب اعتقال 8 خبراء روس في مجال التكنولوجيا، واتهامهم بجرائم مخدرات وقرصنة إلكترونية.
على إثر ذلك، اعتقلت الشرطة الروسية زعيم الجالية الأذربيجانية في يكاترينبورغ، وشخصية أذربيجانية بارزة في مدينة فورونيج جنوب البلاد.
مقاضاة روسيا دولياً ليست القنبلة الوحيدة التي فجّرها علييف بوجه صديقه الشخصي بوتين، بل الأكثر استفزازاً لموسكو كان إشادته بأوكرانيا على مقاومتها للغزو الروسي، وحثّه الأوكرانيين على “عدم الاستسلام أو تقبّل الاحتلال”، حسب تصريحاته.
هذه التصريحات جاءت بعد أقل من شهرين من مقاطعة علييف عرض النصر الروسي في موسكو للمرة الأولى، واستقباله وزير خارجية أوكرانيا، في خطوة فُسّرت على أنها استفزاز مباشر لموسكو.
تغطية على أزمات الداخل؟
على مدار الأشهر الماضية، اتّبع المسؤولون الروس نهجاً ليّناً تجاه أذربيجان، مركّزين باستمرار على العلاقات التاريخية، والتحالف الاستراتيجي، والمصالح الاقتصادية المتبادلة القوية بين البلدين، على أمل امتصاص غضب باكو، لكن النهج الديبلوماسي الروسي لم يحقق النتيجة المرجوّة.
منذ تسعينيات القرن الماضي، نسج البلدان علاقات عسكرية واقتصادية وثقافية قوية. استوردت أذربيجان النفط والغاز من روسيا لتلبية الطلب المحلي، في حين صدّرت منتجاتها من الخضار والفواكه إلى السوق الروسية، التي تُعد الشريك التجاري الثالث لباكو بعد كل من إيطاليا وتركيا.
تضمّ روسيا جالية أذربيجانية كبيرة. وبينما تُشير الإحصاءات الرسمية لعام 2021 إلى نحو نصف مليون شخص، فإن التقديرات غير الرسمية ترفع هذا العدد إلى نحو مليونين، ويمتلك رجال أعمال أذربيجانيون استثمارات كبيرة في الطاقة والعقارات والتجارة داخل روسيا.
تشكّل التحويلات روسية المصدر 46% من مجموع التحويلات المالية الواردة إلى أذربيجان، يقوم بها أكثر من 300 ألف عامل أذربيجاني في روسيا، التي تشارك في الوقت ذاته في تأمين خط أنابيب باكو–تبليسي–جيهان الحيوي بالنسبة لباكو.
في المقابل، يستخدم الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف التوتّر مع موسكو لتشتيت الانتباه عن أزماته الداخلية. يبلغ متوسط الراتب الشهري في أذربيجان الغنية بالنفط والغاز 480 دولاراً، مع كارثة تفاوت حاد في توزيع الثروة، وسط تصاعد قمع المعارضة الداخلية، إذ قامت سلطات باكو باعتقال 83 سياسياً في عام 2024 فقط، وفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية. ولم يعد الانتصار العسكري عام 2020 كافياً لحشد الشعور القومي، ما يدفع علييف للبحث عن “عدو خارجي” جديد.
تجذّرت العلاقة الشخصية والديبلوماسية بعد موقف روسيا المؤيد لباكو في حربها على أرمينيا عام 2020.
نصر كرباخ يدفع باكو لتحدي موسكو
منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في 2022، اكتسبت علاقات موسكو مع باكو أهمية إضافية، في ظل العقوبات الغربية وتحوّل تركيا إلى شريك اقتصادي رئيسي لروسيا.
يحكم كل من الرئيسين علييف وبوتين منذ ما يقارب الربع قرن، ما يضفي طابعاً شخصياً على العلاقة الديبلوماسية بين البلدين.
وتجذّرت العلاقة الشخصية والديبلوماسية بعد موقف روسيا المؤيد لباكو في حربها على أرمينيا عام 2020، حينما نجحت، وبدعم ثلاثي من تركيا وإسرائيل وباكستان، في استعادة أجزاء واسعة من أراضي إقليم ناغورني كرباخ المتنازع عليه مع أرمينيا، فيما تنازلت موسكو عن دورها التاريخي في دعم أرمينيا، واكتفت في هذه الحرب بالتوسّط لوقف إطلاق النار، ونشر 2000 جندي لحفظ السلام لم يتدخّلوا في الهجوم الأذربيجاني الثاني في أيلول/سبتمبر 2023، حينما استعادت باكو السيطرة الكاملة على الإقليم وسط صمت روسي.
الانتصار في كرباخ عزّز ثقة أذربيجان وجعلها أكثر جرأة في سياستها الإقليمية، لا سيما تجاه روسيا، بينما زاد من غضب يريفان التي سرّعت من خطواتها نحو الغرب، وهي التي فضّلت عقد محادثات السلام مع باكو في أوروبا أو الولايات المتحدة، معلنة عدم ثقتها بالوساطة الروسية.
اجتمع كل من الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في أبو ظبي بداية الشهر الجاري في محادثات مباشرة دون أي مشاركة روسية، وسط معلومات بشأن التوصّل إلى اتفاق سيتم توقيعه في الخريف المقبل بالعاصمة واشنطن، وبحضور الرئيس الأميركي.
وبينما رحّبت موسكو علناً بالحوار الأذربيجاني–الأرميني المباشر، أعلنت هيئة الرقابة الزراعية الروسية (روسيلخوزنادزور) فرض قيود على واردات المنتجات الأذربيجانية والأرمنية الزراعية، بزعم اكتشاف “آفات” فيها، في محاولة لاستخدام أحد أهم أوراق الضغط الروسية.
التوتّر بين روسيا وأذربيجان تجاوز الخلافات العارضة وأصبح أزمة متصاعدة في منطقة حيوية، تجاوزت مأزق موسكو بفقدان النفوذ فيها، لتصل إلى حد الحصار الأطلسي لها من خلال خسارة حلفائها التاريخيين في كل من جورجيا وأرمينيا.
تبدو باكو واثقة من موقعها الإقليمي، مستندة إلى دعم تركي وغربي متزايد، فيما تسعى موسكو للاحتواء من دون تقديم تنازلات.