سوريا 2.0: غياب العقد الاجتماعي والعدالة بلا ذاكرة

روج موسى*
في سوريا، لم تكن الحرب مجرد صراع بين المعارضة والنظام المخلوع، بل كانت انفجاراً مدوياً لعجز الدولة عن احتضان التعدد الذي يُفترض أن يُغنيها، لا أن يهددها. والواقع أن ما نحتاجه اليوم ليس دستوراً جديداً فحسب، بل عقد اجتماعي يؤسّس لسوريا التعددية، يعترف بكل المكونات، لا كأقليات تُستوعب، بل كشركاء كاملي الحقوق في بناء المستقبل. لكن، هل يمكن حقاً ترميم دولة فوق ركام دولة لم تعترف أصلاً بمكوناتها؟
الكرد السوريون… من النفي إلى إعادة التأسيس
منذ ما قبل الاستقلال، عانى الكرد السوريون من إقصاء سياسي وثقافي ممنهج. الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، الذي جُرّد فيه 300 ألف كُردي من الجنسية، لم يكن مجرد “خلل إداري”، بل إشارة مبكرة إلى أن الجمهورية السورية التي تحولت في ما بعد إلى الجمهورية العربية السورية الحديثة بُنيت على نموذج قومي أحادي، لا يتسع لتعدد الهويات.
لم يُطلب حينها من الكرد أن يندمجوا فحسب، بل أن يصهروا أنفسهم: لا لغة، لا تعليم، لا تمثيل. وفي ظل سلطة البعث، أصبحت المواطنة مشروطة بالولاء “للحزب”، والثقافة والهوية الكردية تُعامل كتهديد خطر أمني. وحتى بعد الثورة، بقي الكرد في موقع الشك، رغم أنهم لم يكونوا طارئين على التاريخ السوري، بل أحد أعمدته القديمة، وساهموا في النضال الوطني، والاقتصاد، والثقافة عبر العديد من الشخصيات والكيانات التي يعرفها السوريين خير المعرفة.
من الاعتراف إلى الشراكة
ليست القضية الكردية شأناً خاصاً بالكرد وحدهم، بل اختبار لجدية السوريين جميعاً في بناء دولة متعددة، يتساوى فيها الجميع. فكما أن الإنصاف للكرد لا يقلل من شأن العرب، فإن الاعتراف بخصوصية المكونات لا يهدد وحدة الوطن، بل يحميها من الانفجار المستقبلي.
ما يجب أن يُطرح اليوم ليس “حقوق الكرد” فحسب، بل كيف يُعاد صوغ العلاقة بين المكونات السورية: الكرد والعرب والتركمان والسريان والدروز والعلويين والآشوريين والشيعة والسنّة والشركس والإسماعيلية والقرباط وغيرهم ممن خانتني ذاكرتي بذكرهم، على أساس المواطنة المتساوية، والتعدد المُعترف به، والتمثيل غير المشروط.
لامركزية مرنة… لا تفكك ولا تسلط
وعطفاً على ما سبق، فقد يكون أحد أكثر المفاهيم إثارة للقلق – وأيضاً للحلول – حالياً هو اللامركزية. يتم تصويرها أحياناً كتمهيد للتقسيم، أو كإضعاف للدولة، لكن الحقيقة أن لامركزية مرنة، مدروسة، تستوعب الخصوصيات وتوزّع الصلاحيات والموارد، هي الخيار الواقعي الوحيد لإنقاذ سوريا.
نموذج شمال شرق سوريا، رغم تعقيداته، يُمثّل مثالاً على ما يمكن تحقيقه حين تمتلك المجتمعات أدوات الحكم المحلي. صحيح أن التجربة لم تكن خالية من الأخطاء، لكن الأهم أنها أثبتت أن المكونات، حين تُمنح الفرصة، قادرة على إدارة شؤونها من دون الحاجة إلى مركز أمني في مدينة تبعد عنها 400 كم يتحكم بها، وهو نموذج على كل اختلافاتها الداخلية والإدارية والسياسية قد يتشابه مع نموذج حكومة الإنقاذ التي كان يديرها أحمد الشرع نفسه في إدلب، حكومة وشرطة وجيش مصغر في جغرافية صغيرة.
أرى أن اللامركزية السياسية والإدارية الموسعة قد تكون الضامن الوحيد لوحدة سوريا، تماماً كما أنقذت الفيدرالية البوسنة – المسلمة – ومكّن الحكم الذاتي كردستان العراق من الاستقرار في داخل الإقليم والعراق أيضاً.
من انعدام التواصل إلى ترميم الثقة
وبالطبع لا يمكن إهمال أن أحد أكبر جراح العقد الاجتماعي السوري، هو انعدام التواصل بين المكونات. ليس على مستوى السلطة والمعارضة فحسب، بل بين الناس أنفسهم. كم عدد السوريين الذين سمعوا عن معاناة السويداء إلا من خلال الإشاعات؟ أو عن مأساة عفرين إلا بعد فوات الأوان؟ لماذا لم يخرج الشارع العربي حين مُنعت اللغة الكردية؟ ولماذا لم تتحرك مناطق كردية حين كان القصف يطاول درعا أو خان شيخون؟.
إن الشرخ الحقيقي ليس طائفياً أو إثنياً بالضرورة، بل في غياب إطار جامع يجعلنا نحزن لبعضنا، لا نفرح بسقوط الآخر. ولذلك، فإن بناء العقد الجديد يتطلب إعادة نسج نسيج العلاقات الأفقية، عبر الإعلام، والتعليم، والمناهج، والمبادرات الثقافية المشتركة.
دروس من التجارب… وتجربة سورية فريدة
الدعوة ليست لتكرار نماذج خارجية لأنها غير مفيدة بالكامل في الحالة السورية، لكن تأملها يحمل فائدة لسوريا في سعيها نحو الخروج من أزمتها. ففي جنوب أفريقيا، لم تُكتب المصالحة بالكلمات فقط، بل تجسّدت في لجان الحقيقة التي جمعت القاتل والضحية على طاولة واحدة. وفي رواندا، استطاعت البلاد تجاوز واحدة من أبشع المجازر عبر بناء هوية وطنية جامعة من دون إلغاء للهويات الفرعية. أما العراق، فكان درساً مريراً في أن المحاصصة الطائفية تُقسّم السلطة من دون أن تبني وطناً، في حين أظهر لبنان أن الميثاقية الشكلية، من دون إصلاحات عميقة، تفرز دولة عاجزة ومهددة بالانهيار.
سوريا لا تحتاج إلى تكرار هذه النماذج، بل إلى استخلاص العبر منها لصوغ تجربتها الخاصة، القائمة على عقد اجتماعي يعترف بالتعددية، ويؤسس لعدالة سياسية، ويمنح النظام السياسي مرونة هيكلية. فلا عقد اجتماعياً حقيقياً من دون عدالة انتقالية واضحة؛ إذ لا يمكن التقدم على جروح الماضي من دون مساءلة صريحة. مجازر مثل التضامن، وكوباني بعد التدخلات الخارجية، والاعتقالات والتغييب القسري في مختلف أنحاء البلاد، يجب أن تُدوَّن في ذاكرة وطنية لا تُمحى، لأن العدالة، لا الحصانة، هي الأساس في أي مصالحة حقيقية.
العقد لا يُكتب بالحبر بل بالاعتراف
وكما يبدو إن السلطة الحالية والقوى السياسية المحلية والإقليمية التي تدعمها يرون أن الدستور كافٍ لبناء وطن، وهو ما أراه أكبر خطأ قد يرتكبه طرف ما في أي بقعة من الأرض. فالدستور مجرد نتيجة. ما لم تُبنَ الثقة، ويُعاد الاعتراف المتبادل، وتُوزّع السلطات بعدالة، ويُكسر احتكار اللغة والهوية والمركز، فإن النصوص تظل حبراً على ورق.
السوريون اليوم أمام خيارين: إما أن يستمروا في إدارة بلد متعدد كأنه واحد، فتتفكك وحدتهم، وإما أن يعترفوا بتعددهم، فيصنعون وحدة من نوع جديد: وحدة تعاقدية، لا قسرية؛ وحدة تشبه ما كان يمكن أن يولد قبل قرن، لو انتصر دستور الجمعية التأسيسية في عام 1920 على البنادق الفرنسية رغم العديد من الملاحظات على ذلك الدستور أيضاً.
والكرد، وغيرهم من المكونات، ليسوا مجرد بند في هذا العقد. إن تمثيلهم بصدق لا كجسر بين القوى الدولية، ولا كطرف يُستدعى عند الحاجة، هو مقياس حقيقي لقدرة سوريا على أن تكون بلداً لكل أبنائها. وكما أن العرب لا يشعرون بالأمان من دون هوية جامعة، فإن الكرد لن يشعروا بالانتماء من دون اعتراف متكامل.
في نهاية المطاف، يتضح أن المشكلة ليست في أن السوريين لا يتفقون، بل في أنهم لم يُمنحوا المساحة يوماً ليختلفوا ثم يتفقوا. لقد حكمتهم فكرة واحدة، ودولة واحدة، وهوية واحدة، حتى أصبح ثمن الخروج عنها الدم، ما يؤكد أن العقد الاجتماعي المفيد ليس ترفاً، بل شرط بقاء. ولن يُكتب بيد المنتصر، بل بمصافحة الند للند. مصافحة تُعيد المعنى للكلمات البسيطة التي فقدت مضمونها: مواطنة، مساواة، شراكة، سوريا.
*كاتب وصحافي سوري