إعلان دستوري دون مشاركة! | النهار

سام دلّه*
إذا استثنينا، رغم أهميتها، السياقات والآليات التي أعد فيها الإعلان الدستوري: مؤتمر الحوار الذي كان فارغاً من أي نقاش حقيقي وقيمة تشاركية لبلد ممزق اجتماعياً وجغرافياً، تشكيل اللجنة الفنية للصياغة التي جاءت من خلفية سياسية تؤيد خطاب سلطة الأمر الواقع، ناهيك بضعف الخبرة التي أدت إلى تناقض بين النصوص التي تفرغ بعضها بعضاً من المضمون، وضعف ونقص في صياغاتها، والسكوت عن قضايا جوهرية، وصياغات انتقائية… إلخ، لا يمكن قراءة أي وثيقة قانونية (دستور، إعلان دستوري، قانون) ولا كتابتها ولا تفسيرها إلا ككل أو بشكل إجمالي، بحيث إن أي قراءة جزئية لحكم أو نص متقدم قد تعطي استنتاجاً مضللاً، إذ يمكن أن يكون هناك حكم آخر يُفرغ الحكم الأول من مضمونه. وهذا ما حصل في الإعلان الدستوري (الذي أصدرته سلطة الأمر الواقع لتشرع وجودها.
يكفي، كبداية وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن نشير إلى تأكيد الإعلان الدستوري على “مبدأ الفصل بين السلطات” الذي ينظر إليه بشكل مجرد على أنه نص متقدم. لكن، بعد قراءة باقي أحكام الإعلان الدستوري، نجد أن هذا الفصل وهمي، وبالتالي النص مضلل، إذ وضع الإعلان جميع السلطات بيد رئيس السلطة التنفيذية من دون أدنى مشاركة أو توازن مع سلطة أخرى.
بقراءة إجمالية لأحكام الإعلان الدستوري، نجد الآتي:
– المبادئ التي نص عليها بصيغة شعارات، افتقدت لآليات أو فرّغت من مضمونها، ومبدأ الفصل بين السلطات مثال.
– لم يُشر الإعلان الدستوري إلى “الديموقراطية” مطلقاً، علماً أن الإشارة إليه كمصطلح لم تنقطع في جميع الدساتير السورية منذ تأسيسها، بغض النظر عن التطبيق. كذلك، لا الإشارة إلى أن السيادة للشعب مع أن هذه من المبادئ الجوهرية، وخصوصاً في وثيقة دستورية انتقالية. أسباب عدم الإشارة إلى ذلك معروفة، فالخلفية السلفية للسلطة لا تعترف بهذه المفاهيم كمبادئ عالمية للحكم. وإهمال النص على هذه المبادئ رسالة سلبية للمجتمع السوري الذي ناضل من أجل استعادة السيادة للشعب، وبناء دولة على أسس ديموقراطية.
– لا يتضمن الإعلان الدستوري الحد الأدنى من التوازن بين السلطات، وهذا ناجم عن تبني نظام رئاسي (بل أبعد من نظام رئاسي) في بلد لا تقاليد ديموقراطية فيه، ولا مؤسسات قوية تحدّ من استبداد رئيس جمع كل السلطات والصلاحيات بيديه. إلى ذلك، لا يلائم النظام الرئاسي طبيعة المرحلة الانتقالية التي يُفترض أن تبنى على تشاركية واسعة لضمان بناء مناخ ومؤسسات تسمح بالانتقال للمرحلة الطبيعية.
– أعطى الإعلان الدستوري هيمنة كاملة على السلطة التنفيذية، فأضحى الوزراء مجرد موظفين (وهذا يتضح رمزياً من خلال القسم الذي يؤديه الرئيس مع الذي يؤديه الوزراء).
– ثمة ضعف في آلية تكوين السلطة التشريعية وسيطرة رئيس السلطة التنفيذية على هذا التكوين، مع ما يتبع ذلك من سيطرة على الوظيفة التشريعية. فالرئيس هو من يعين ثلث أعضاء البرلمان ويعين الثلثين الباقيين من لجنة يعينها الرئيس بإرادته المنفردة.
– ثمة ضعف في آلية تكوين السلطة القضائية، وخصوصاً مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا، مع سيطرة رئيس السلطة التنفيذية على هذا التكوين، وما يتبعه من سيطرة على الوظيفة القضائية. لا أحد يعرف كيفية التشكيل ولا الصلاحيات، لأنها متروكة لسلطة الرئيس.
– إمكان إعلان رئيس السلطة التنفيذية حالة الطوارئ بتشاركية شكلية مع سلطات هو من يعينها.
– غياب أي إشارة للحوكمة المحلية أو اللامركزية.
لو أردنا التعمق والتتبع تقنياً لأحكام هذا الإعلان الدستوري سنجد حجم التضارب والتناقض فيه كبيراً، إذ يترك الأمور عائمة تُمكن الرئيس من انتقاء ما يريد وتبرير ذلك بأسباب سياسية، وليست دستورية. هنا، بين أيدينا مثال فاقع على ذلك، فواضعو الإعلان الدستوري شددوا على أن أهم إنجاز حققوه هو “عدم منح الرئيس سلطة تشريعية”، ومتتبع ما حدث خلال الشهور القليلة التي مضت على الإعلان، يعلم أن رئيس المرحلة الانتقالية أصدر بإرادته المنفردة العديد من التشريعات.
الأهم من ذلك كله أن الإعلان الدستوري بصفته ينظم مرحلة انتقالية، لم يحدد أي مسارات وأحكام تؤسس للمرحلة ما بعد الانتقالية (إعداد الدستور، تكوين سلطات ما بعد المرحلة الانتقالية)، بل منح سلطة أمر الواقع مدة زمنية طويلة (5 سنوات) هي مدة أطول أو تعادل ولايات انتخابية في دول مستقرة، ليعطيها إمكان التأسيس للبقاء من دون العبور نحو انتقال سياسي. وهذا ما نلاحظه من خلال ممارسات السلطة التي تتصرف كأنها سلطة دائمة وليس انتقالية.
*خبير دستوري سوري