نظام الأسد يواجه الانكشاف بعد السقوط… تداعيات العقد الاجتماعي في سوريا

نظام الأسد يواجه الانكشاف بعد السقوط… تداعيات العقد الاجتماعي في سوريا

نورالدين اسماعيل*

طيلة السنوات التي حكم فيها نظام الأسد، الأب ومن ثم الابن، سوريا، قدم نفسه للعالم على أنه النظام الذي يحمي الأقليات، خصوصاً مع انطلاق “الثورة السورية” وتهديد القبضة الحديدية التي سيطر بها على البلاد، إلا أنه في حقيقة الأمر كان يستثمر في هذه الورقة، استثماراً وقحاً، ما خلق واقعاً ملغماً في البلاد يهدد بالانفجار في أية لحظة.

لم يكن استثمار عائلة الأسد في الطوائف والإثنيات فقط في سوريا، حيث تجرع اللبنانيون كأس التدخل العسكري السوري في بلادهم أثناء الحرب الأهلية، وذاقوا مرارة دعم النظام لمكونات لبنانية على حساب أخرى، والذي أجج الوضع المتأزم أساساً.

أما في سوريا، فكان استثمار النظام والعائلة في الطوائف أعمق وأقسى، بالرغم من ادعائه تجريم الطائفية ومنع الحديث عنها بين المواطنين، إلا أنه اتبع أسلوباً مبطناً في إدارة الأزمات على أساس طائفي، كان له انعكاس سلبي على البلاد، وخلف ندوباً ظهرت آثارها جلية بعد السقوط.

تعمّد خَلْقَ شرخ بين المكونات السورية ليسهل له السيطرة عليها، والتحكم بها واستخدامها لصالحه لمواجهة بعضها البعض بالنيابة عنه، وهذا ما فعله بين العشائر العربية والأكراد في الحسكة، والاستثمار في طائفته بمواجهة السوريين المنتفضين عليه عام 2011، أو عبر تصدير بعض الشخصيات من المكونات بحيث يضمن ولاءها لتعمل وفق أجندته ولخدمته.

تركة ثقيلة

بعد سقوط النظام السوري ووصول السلطة الجديدة إلى الحكم، كان أمامها الكثير من التحديات، لكن الأكثر تعقيداً من بين تلك التحديات كان العمل على عقد اجتماعي سليم يصحح المسار في سوريا، ويضعها على طريق التعافي بعد سنوات من الحرب والاقتتال، ويعيد الثقة بين الدولة والمواطن، ويحافظ على حقوق وملكيات الشعب.

بالرغم من أن المرحلة التالية لسقوط النظام مباشرة لم تشهد أية أعمال انتقامية أو عدائية، نتيجة التزام عناصر الفصائل العسكرية بتوجيهات قياداتها من جهة، وخوف بقية المكونات السورية من الواقع الجديد، فإن فترة الاستقرار والهدوء هذه لم تستمر طويلاً.

الندوب والانتهاكات التي خلفتها سنوات “الثورة السورية”، والاصطفاف إلى جانب النظام السوري خلال الحرب من قبل مكونات بعينها، بدأت تظهر نتائجها بعد فترة قليلة من سقوط النظام، عبر أحداث وتحركات كان لفلول وبقايا قوات النظام المخلوع دور فيها، من خلال إثارة البلبلة وافتعال الأزمات، ليظهر التوتر في مناطق كالساحل السوري وحماة وحمص.

كما ساهم تأخر الدولة في محاسبة المتورطين بجرائم الحرب من قوات النظام المخلوع، خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، بدور كبير في وقوع انتهاكات وأعمال انتقامية خارج نطاق القانون، وهو ما أشارت له لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل، خلال عرضها نتائج التحقيق، يوم الثلاثاء.

زاد تعقيد المشهد بشكل أكبر مع بروز أحداث جديدة في السويداء، نتيجة اشتباكات بين عشائر البدو ومجموعات مسلحة من محافظة السويداء، هذه المنطقة التي تعود فيها الخلافات بين الجانبين إلى زمن طويل.

ولعب الزعيم الروحي لطائفة “المسلمين الموحدين الدروز” في السويداء حكمت الهجري دوراً سلبياً في تلك الأحداث، عبر رفضه السابق لجميع الحلول، ورفضه القاطع لدخول مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية إلى المحافظة، والتجييش ضد الدولة ومؤسساتها ما أدى لاستهداف عناصر وزارة الداخلية الذين حاولوا الدخول إلى المحافظة كقوات فصل، حيث شهدت المحافظة لاحقاً أحداثاً دامية، بعد تدخل العشائر العربية في سوريا على خط المواجهة إلى جانب بدو السويداء.

دعوات الهجري المتكررة المطالبة بتدخل أجنبي وحماية دولية كانت بمثابة الدعوة لدولة الاحتلال الإسرائيلي لقصف مواقع سورية، وهو ما حدث في مناطق من درعا والسويداء، والأكثر رمزية وأهمية استهداف مبنى قيادة الأركان في الجيش السوري، الأمر الذي تسبب بتوسع الشرخ بين السوريين وتعقيد المشهد أكثر.

في ذات الوقت، يبقى الترقب سيد الموقف في مناطق شرقي سوريا التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديموقراطية”، على الرغم من الاجتماعات بين قياداتها ومسؤولين سوريين من السلطة الجديدة، لحل الأمور العالقة، دون وجود أي تغير على الأرض.

إلى أين؟

سوريا بلد يميزه عن غيره من البلدان التنوع الإثني والطائفي، وهو الأمر الذي يجعل من الحلول فيه معقدة بعد سقوط ديكتاتورية كانت من أكثر ديكتاتوريات العالم دموية وقسوة وإرهاباً، ويجعل الحلول النظرية أقرب إلى الطوباوية المفرطة، دون وضع أسس سليمة تقوم على قواعد صحيحة للانطلاق نحو بناء الدولة المتهالكة.

لكن للوصول إلى عقد اجتماعي مبني على أسس صحية في سوريا لا بد من تسريع خطوات الحل، والتي تبدأ بمحاسبة المجرمين المتورطين بانتهاكات ضد السوريين خلال سنوات “الثورة السورية” لتخفيف حالة الاحتقان التي تعيشها عائلات الضحايا، وأن تستمر عبر محاسبة المتورطين بانتهاكات بعد سقوط النظام السوري، إضافة إلى استمرار ضمان الحماية اللازمة لجميع المكونات السورية على حد سواء.

ويمكن البناء على نتائج “لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل” كسابقة في تاريخ سوريا، حيث لم تتدخل الدولة في عمل اللجنة، والاعتراف بوجود انتهاكات، والتعهد بمحاسبة المتورطين فيها، ذلك التعهد الذي يجب اتباعه بخطوات عملية وتنفيذية على الأرض، إضافة إلى سن قوانين تجرم التجييش والتحريض الطائفي على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي وصلت حد الجنون.

لا يمكن لسوريا أن تعيش بلون واحد وهي طيف من ألوان متنوعة، وهو ما أكدت عليه الدولة مراراً، ووعدت بالمحافظة عليه، إلا أن رد الحقوق إلى أصحابها بداية الطريق نحو إعادة بناء الثقة بين تلك الألوان للانصهار مجدداً في الطيف العام، وفي سوريا الدولة، التي هي للجميع.

*رئيس تحرير صحيفة “الثورة” السورية