هل ستظهر سوريا الجديدة نتيجة أحداث جبل العرب؟

هل ستظهر سوريا الجديدة نتيجة أحداث جبل العرب؟

د. وليد صافي 

الأحداث الأليمة التي عصفت بجبل العرب، وذهب ضحيتها أكثر من ألف مواطن سوري، بينهم 300 من أبناء طائفة الموحدين الدروز (وربما أكثر)، دقت جرس الإنذار على أبواب الحكم الجديد في دمشق، وجميع اللاعبين والمؤثرين في المسرح السياسي السوري.

في التصنيفات النظرية، جرى اعتبار الدروز أقلية، لكنهم في الواقع مذهب توحيدي من مذاهب الإسلام، وليسوا طائفة مستقلة عن المسلمين كما تروّج الدعاية الإسرائيلية المشبوهة. وفي السياسة، تاريخهم المقاوم لكل أشكال الإخضاع والانتداب والاحتلال، وانخراطهم في الدفاع عن بيئتهم الإسلامية والعربية، جعلاهم في مركز هذه البيئة وتحولاتها، إذ لُقّبوا بحماة الثغور وسيف الإسلام والأرستقراطية المحاربة نظراً لشدة بأسهم ونُبلهم في القتال. إنهم سيف الإسلام ووديعتُه في الوقت عينه، كما وصفهم الشهيد كمال جنبلاط.

إنهم مكوّن إسلامي – عربي، نجح في التوفيق بين انتمائه إلى محيطه الطبيعي والمحافظة على خصوصيته وعاداته وتقاليده وقيمه. وقد شكّلت هذه الخصوصية بالنسبة إلى الدروز حزام أمان ومدماكاً من مداميك الوجود الذي لا يمكن التنازل عنه أو مقايضته، لا بسلطة ولا بمال.

في طائفة الموحدين الدروز، ثمة عقد اجتماعي مكّنهم في التاريخ الحديث وبعد الاستقلال من الانخراط في أوطانهم والاندماج في نسيجها الوطني، إذ لا مشاريع خاصة لديهم ولا ركوب موجات خارجية تهدد وحدة الدول التي ينتمون إليها. أما العرب الدروز في فلسطين المحتلة، فلم يختاروا إسرائيل “وطناً”، بل تمسكوا بالأرض التي يعتبرونها شأناً مقدساً وعنصراً أساسياً من عناصر وجودهم. ومنذ قانون التجنيد الإجباري في 1956، يتعرضون لسياسة محو هويتهم وسلخهم عن بيئتهم.

تاريخ جبل الدروز، الملقب بجبل العرب، جزء من هذا التراث النضالي الكبير، الذي جمع بين الانتماء إلى المحيط العربي والإسلامي والمحافظة على الخصوصية. وإن كان الجبل يمرّ بمحنة الانقسام في هذه المرحلة، فإن رهان بعضهم على الحماية الإسرائيلية والدولية لا يُلغي تراث سلطان باشا الأطرش في قيادة الثورة السورية الكبرى، ولا تضحيات أبنائه في مواجهة كل أشكال تقسيم سوريا وشرذمتها، ولا يبرر التعامل معهم بالجملة، والدوس على تضحياتهم الكبيرة في سوريا، والنظر إليهم كأقلية مسلوخة عن التاريخ العربي والإسلامي.

إنها مسألة تحتاج إلى نقاش صريح، فمحاولة إخضاعهم بالقوة، واستهداف كراماتهم، والاعتداء على حرماتهم ومشايخهم، كان خطأً جسيماً؛ إذ بدت هذه الأحداث المروّعة تتغذى، في لحظات الشدة، من الكراهية والأحقاد، ومن التدخل الإسرائيلي المسموم الذي كان يهدف إلى رسم مشهد بدماء السوريين الدروز والبدو والعشائر، لا يؤدي إلى انفصال الجبل فحسب، بل إلى جعل سوريا مسرحاً جديداً للفتنة والفوضى والتشرذم والاقتتال.

الحمد لله، نجحت الجهود في وقف إطلاق النار والسيطرة على الأوضاع؛ إذ أدرك جميع اللاعبين (باستثناء بنيامين نتنياهو طبعاً) أن المعارك الدائرة في السويداء، والتي بدت في ظاهرها مواجهة بين الدروز والبدو المدعومين بالعشائر، وبين الدروز وقوات النظام الجديد، إنما هي في عمقها إعادة رسم الجغرافيا السياسية في الجنوب السوري بدماء السوريين، كمقدمة لإعادة رسم خريطة سوريا بما يتوافق مع أهداف بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة.

في هذا الإطار، بوركت الجهود التي قام بها وليد جنبلاط من أجل وقف إطلاق النار، والموقف الحكيم الذي اتخذه، كما بوركت جميع الجهود الرسمية والدينية والسياسية التي لاقت مواقفه في تحصين لبنان ومنع الفتنة من الانتقال إليه.

تبدو الأولوية الآن لتثبيت وقف إطلاق النار، ولملمة الجروح، وتبادل الأسرى وتأمين المستلزمات الطبية والصحية والغذائية والخدمات لمحافظة السويداء والمناطق المنكوبة الأخرى. لكن الأسئلة المعقدة بدأت تُطرح: ماذا بعد؟ وكيف نحوّل هذه الأحداث إلى فرصة من أجل قيام سوريا الجديدة؟ وكيف نواجه اللعب الإسرائيلي في الجبل ومكوناته، ونمنع تل أبيب من التذرع بحماية الأقليات في سوريا لتنفيذ مشروعها لتقسيم البلاد؟ كيف نواجه الخوف والصدمة في الجبل بمكوناته كافة؛ إذ لا يكفي إن يطمئن الرئيس أحمد الشرع الناس في خطابه ويعد بحمايتهم، بل المهم أن يشعر الناس فعلاً بالأمان، وأن تُتخذ الإجراءات العملية للمحافظة على الأمن وحماية المواطنين كافة.

من أهم الأمور في رأب الصدع والمعالجة، استخلاص الدروس وتحقيق العدالة للعائلات الثكلى من جميع الأطراف. ومن أبرز هذه الاستخلاصات أن الحماية الخارجية للجبل، سواء أكانت إسرائيلية أم دولية، هي مصدر للفتنة والتشرذم والاقتتال، وهي مساحة يوظفها نتنياهو في مشاريعه التقسيمية. ومن الدروس المهمة أيضاً أن مشروع بسط سلطة الدولة في الجبل وحصر السلاح بيدها هو أمر سياسي بامتياز، وحصره في مقاربة أمنية مسلوخة عن أي محتوى سياسي لا يؤدي إلى معالجة عمق المشكلة القائمة في الجنوب السوري.

أخيراً، ابدأ المعالجة بالتحضير للمصالحة الوطنية المبنية على مقاربة سياسية شاملة، تتيح حواراً وطنياً جدياً لإقامة عقد اجتماعي يضمن التعددية السياسية والمشاركة الفاعلة، ويجعل من التنمية ركيزة أساسية للاستقرار والنهوض.

* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية