جمهورية السويداء ذات السيادة المحدودة | النهار

معقد جداً الوضع في سوريا وصعبة جداً مهمة الحكم الجديد رغم كل الدعم الذي يحظى به من الولايات المتحدة وأوروبا وتركيا ودول عربية، فما زالت الرمال السورية تتحرك وتُحرك الرئيس أحمد الشرع وأركان حكمه وتربكهم.
حوادث السويداء الأسبوع الماضي لم تكن مجرد حادث عرضي ومشكلة جوار بين دروز المحافظة والبدو المقيمين فيها وفي جوارها. هي حلقة خطيرة في مسلسل التحديات التي يواجهها النظام الجديد الذي لم يرس دعائمه بعد في البلد الذي مزقته الحرب الأهلية ونتفت ريش شعبه بكل مكوناته الطائفية والإثنية.
تطرح مشكلة السويداء أزمة عميقة يعانيها البلد، قبل أن تكون أزمة نظام متعثر، الحرب المديدة المدمرة كشفت المجتمع السوري وغيّرته. سوريا “القومية” انتهت، وانتهى معها بعض علمانية كان “يفرضها” حزب “البعث” شكلياً وتنتعش في أوساط مثقفين مسلمين ومسيحيين ودروز، خصوصاً من بقايا الشيوعيين والقوميين السوريين وفي بيئات التجار وأصحاب المصالح العابرة للمناطق والطوائف.
باتت سوريا التي كانت تخضع لنظام حديدي في ظل حكم “البعث” (آل الأسد) بلداً غير موحد عملياً. فتتها الحرب إلى كيانات طائفية ومذهبية متناحرة. والمذهل في الحرب السورية وما بعدها كمية الحقد المتبادل بين مكوناتها. فمن أين أتى السوريون بكل ذلك؟
النظام السابق مسؤول بالتأكيد، فهو حكم البلد بالحديد والنار وسلّط عائلته وطائفته ومخابراته على البلد، وطبيعي أن يثير ذلك أحقاد الاكثرية التي اعتبرت نفسها مظلومة طوال خمسين عاماً، وهو ما تمظهر في اندلاع “الثورة” وفي العنف الذي رافقها وفي ما تشهده البلاد اليوم من صراعات دموية. لكن أيضاً النظام الحالي مسؤوول كما هي مسؤولة الجماعات الطائفية والاثنية التي لاتزال ترفض منطق الدولة.
انتهت حوادث السويداء إلى وضع أسوأ مما كانت عليه. واهم من يظن انه انتصر في هذه الحرب القصيرة. فلا الدولة بسطت سلطتها على المحافظة ولا الدروز سيربحون على المدى الطويل. أما البدو فما كانوا أكثر من وقود وضحايا.
لن تصبح السويداء جمهورية مستقلة، ولا حتى محافظة حكم ذاتي، لأنها لا تملك مقومات ذلك، فهي محكومة بالتاريخ والجغرافيا وبالحياة السورية اقتصاديا ونفسياً. واهم من يظن أن إسرائيل تحب أهل السويداء أو غيرهم من العرب وتريد مصلحتهم، التجارب كثيرة ومعبرة، وانتهت كلها بتخليها عمن كانوا يعتبرون انفسهم حلفاء لها. مصير “جيش لبنان الجنوبي” التابع لها أثناء احتلالها جنوب لبنان منذ 1978 حتى تحريره عام 2000 دليل يؤكد نظرية انها تريد عملاء لا حلفاء. هي لا تثق بأحد، مسيحياً كان أو درزياً أو سنياً أو شيعياً أو علوياً… السويداء بالنسبة إلى إسرائيل ليست اكثر من معبر وأداة لتجريد الدولة السورية من سلاحها قرب حدودها وتفتيتها إلى دويلات طائفية ضعيفة تلوذ بها لحماية نفسها. وسيأتي يوم يتفق فيه النظام وإسرائيل على ترتيبات أمنية في جنوب سوريا لن يكون دروز السويداء طرفاً فيها، والنظام مستعد لإبرام مثل ذلك الاتفاق في ضوء ميزان القوى الحالي وحاجته إلى أميركا وغيرها.
تعيد حوادث السويداء وما تبعها من فرز مذهبي إلى الواجهة الحديث عن مخطط تفتيت المنطقة إلى كيانات مذهبية ودينية على شاكلة الكيان الإسرائيلي. حذر مثقفون وسياسيون من هذا المخطط قبل خمسين عاماً. تبدو سوريا اليوم أرضاً رخوة وقابلة للتفتيت نتيجة ثلاثة عوامل متداخلة: الاحقاد المتبادلة بين الطوائف والمناطق، التدخل الإسرائيلي (والتركي والأميركي) وضيق أفق النظام الجديد وضعف قدراته الاقتصادية والفكرية والتنظيمية والميدانية.
إذا كان على بعض “حكام” السويداء النظر إلى ابعد من تحقيق نصر آني ومحدود والنظر إلى مستقبلهم في سوريا موحدة تحكمها دولة قوية و(عادلة)، فإن على النظام الجديد التصرف كدولة عصرية تحتوي مواطنيها ولا تعتبرهم اعداء وإن أخطأ بعضهم.
تحتاج الدولة السورية إلى تغيير جذري في طريقة إدارتها للبلد الصعب الحكم. ليس المطلوب إقامة دولة علمانية فوراً، لكن سوريا لا تتحمل حكماً إسلامياً على طريقة ملالي إيران أو “طالبان”… ولا يجوز أن يختصر تاريخ سوريا وثقافتها العميقة ببني أمية وبـ 1400 سنة. سوريا أعتق من ذلك بكثير.
لا يكفي أن يرتدي الشرع ووزراؤه بدلات أنيقة بربطات عنق منسقة ويشذبوا لحاهم على الطريقة العصرية. لا بد من قص اللحى التي ظهرت في الفيديوهات المنفرة، سواء في مجازر الساحل أم في حوادث السويداء. الصورة لم تكن إطلاقاً افي مصلحة النظام ولا مناص من تغييرها، وهذه أيضاً مهمة معقدة تحتاج الى قرارات كبيرة وقدرات لا يبدو أن الدولة تمتلكها.
الأزمة مديدة وهي إيديولوجية أيضاً، ومن هنا تعقيداتها الكبرى.