لبنان: التنمية ضرورة ملحّة وليست ترفاً بل الخيار المتاح الوحيد

ديان سامر اللبان
في زمن ينهار فيه القديم دون أن يُبنى الجديد، وفي وطن أثقلته الأزمات المركّبة، لم يعد بالإمكان الحديث عن “إنقاذ لبنان” وكأننا في سباق مع الوقت، بل نحن في سباق مع الوجود. الإنكار لم يعد خياراً. النفي لم يعد مهرباً. لبنان اليوم أمام مفترق حاسم: إما أن يُعاد تأسيسه على أسس إنتاجية ومؤسساتية جديدة، أو أن يغرق أكثر في دوّامة الإفلاس والانقسام.
كأنها أزمة صمّمت لعرقلة التنمية! ما يعيشه لبنان ليس نتاج كارثة طبيعية، بل ثمرة نظام متقن في إنتاج التعطيل. من الانهيار المالي إلى تآكل مؤسسات الدولة، يتجلى الخلل البنيوي في كل مفصل من مفاصل الاقتصاد والسياسة. الإنفاق العام المستنزِف، التوظيف الزبائني، غياب التخطيط، والاعتماد المفرط على قطاع الخدمات (أكثر من 78% من الناتج المحلي) كلها أسهمت في تقويض أي مقومات لتنمية مستدامة.
لبنان يعاني اليوم من شلل مزدوج: مؤسساتي واقتصادي. السلطة النقدية تفتقر إلى الاستقلالية، والجهاز الإداري للدولة مفكك ومفوّض للطوائف والأحزاب، والاقتصاد محكوم باستهلاك دون إنتاج، وتحويلات دون استثمار، ومساعدات دون مساءلة.
غياب الرؤية وضياع الفرص
منذ اتفاق الطائف، فشلت الحكومات المتعاقبة في تحديد “القطاعات الرائدة” في الاقتصاد الوطني. الرهان الخاطئ على قطاع الخدمات بدلاً من الصناعة أو الزراعة، تجاهل الترابط الإنتاجي والتشابك الأمامي والخلفي بين القطاعات، وفتح الباب واسعاً أمام الحلقة المفرغة: انخفاض الدخل > ضعف الطلب > تراجع الاستثمار > بطالة > انخفاض الدخل.
كل محاولات “النموّ” السابقة اعتمدت على استدانة لتمويل مشاريع بنية تحتية في بيروت، من دون خلق محركات نموّ إنتاجي في المناطق الأخرى. حتى خطة “ماكينزي” التي شخّصت الحلقة المفرغة واقترحت التصنيع الزراعي كقاطرة للتنمية، لم تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب غياب القرار السياسي والإرادة الجادة.
في قلب أزمة عالمية متحوّلة
لبنان ليس وحده في الأزمة، لكنه من أكثر الدول انكشافاً على التحولات العالمية. النظام المالي الدولي يشهد تفككاً، أدوات السياسة النقدية التقليدية تفقد فعاليتها، والدول تبحث عن بدائل للدولار ونماذج جديدة للثقة. في هذا المشهد، الثقة صارت “عملة صعبة” تُمنح للدول التي تملك رؤية واضحة، ومؤسسات شفافة، واقتصاداً منتجاً.
لكن لبنان، للأسف، يواجه هذه التحولات العالمية وهو يفتقر إلى الحد الأدنى من الشفافية والمحاسبة. سجلات مالية مجتزأة، تقارير محاسبية غير دقيقة، وعدم كشف كامل لحقيقة الانهيار. لا يمكن للبنان أن يطالب العالم بثقة جديدة وهو يخفي أزمته خلف ستار الطائفية والإنكار.
نحو تحوّل تنموي حقيقي: خريطة طريق ممكنة
ما يحتاج إليه لبنان اليوم ليس “مساعدات طارئة”، بل تحوّل جذري في الرؤية والقيم والنهج:
1. تحرير القرار التنموي من الزبائنية. لا يمكن النهوض باقتصاد منتج من خلال تعيينات محاصصاتية. الكفاءة والمساءلة يجب أن تكونا معياراً وحيداً في القطاع العام والمصرف المركزي والسلطات الرقابية.
2. إعادة الاعتبار للقطاعات الإنتاجية. الصناعة التحويلية، خصوصاً تلك المرتبطة بالزراعة، يجب أن تُعامل كقاطرة للنمو، عبر برامج تحفيز مالي وضريبي وربطها بسوق التصدير لا الاستيراد.
3. مأسسة الحماية الاجتماعية. التعليم والصحة يجب أن يُخرجا من قبضة الطوائف والأحزاب، ويُعاد دمجهما ضمن استراتيجية دولة مدنية تضع الإنسان في صلب العملية التنموية.
4. تشكيل هيئة مستقلة لإدارة الإعمار والمساعدات. تكون خاضعة للرقابة البرلمانية والإعلامية، وتتولى توزيع المشاريع وفق خريطة إنماء متوازن لا سياسي.
5. بناء شراكات دولية جديدة. على المانحين أن يتوقفوا عن تمويل الخلل القائم، وعلى الدولة أن تقدّم نفسها كمحور تنمية لا مجرد واجهة بروتوكولية.
لا تنمية من دون مواجهة
الاقتصاد ليس أرقاماً فقط، بل ثقة، وعدالة، وقدرة على تحويل الإمكانيات إلى فرص. لن تقوم تنمية على أساس الانقسام، ولا يمكن للاقتصاد أن ينهض من دون مؤسسات مستقلة وشفافة. إما أن نمتلك الشجاعة لبناء “جمهورية جديدة” على أسس إنتاجية وشراكة داخلية وخارجية مسؤولة، أو نواصل الغرق في وهم الحلول الترقيعية.
التنمية ليست ترفاً في لبنان بل فرصتنا الأخيرة لنكتب مستقبلاً يستحقه أولادنا وأحفادنا.
– المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.